إيران السلطة تتراجع خطوة إلى الوراء
تتراجع السلطة في إيران خطوة إلى الوراء، من أجل احتواء الاحتجاجات الشعبية، بعد أكثر من شهرين من المظاهرات الواسعة التي شملت المحافظات كافة، وارتفاع أعداد القتلى إلى أرقام قياسية. وحسب تقارير مختلفة صادرة عن جهات عديدة، منها منظمة حقوق الإنسان الإيرانية، ومصادر إعلامية محلية وخارجية، فإن العدد تجاوز 450 قتيلا حتى الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، من بينهم أكثر من 60 قاصرًا، وذلك نتيجة التدخل من الحكومة لإنهاء الاحتجاجات بطرق مختلفة، شملت استخدام أساليب قمعية، مثل الغاز المسيل للدموع وإطلاق النار. وأول قرار ملموس في تكتيك التراجع أمام الموجة الشعبية الواسعة هو حلّ المدّعي العام في إيران شرطة الأخلاق ومراجعة قانون الحجاب. وهما خطوتان غير فوريتين، إلا أنهما على درجة عالية من الأهمية. ويريد النظام منهما امتصاص جزء من غضب الشارع وتقسيمه بين من يطالبون بالحريات الشاملة وآخرين يقفون عند الأسباب التي أدّت إلى اندلاع الاحتجاجات الحالية، بسبب مقتل الشابة الكردية مهسا أميني في 22 سبتمبر/ أيلول الماضي على يد "شرطة الأخلاق" التي ضربتها وعذبتها بذريعة عدم ارتداء الحجاب بطريقة سليمة. ومن المعروف أن هذا الجهاز سيئ السمعة، ولعب دور وصاية على المجتمع الإيراني من الناحية الأخلاقية، بالإضافة إلى توليه مهام أمنية ذات طابع قمعي من أجل حماية النظام والدفاع عنه، وقد جرى تغيير اسمه عدة مرات منذ تأسيسه في عهد الرئيس الأسبق، محمد خاتمي، وجرى استخدامه خلال 15 عاما كأداة قمع في كل المظاهرات الاحتجاجية السابقة، وخصوصا الأكثر دموية في 2019 - 2020 التي أسفرت عن مقتل أكثر من 1500 شخص.
ليس التوجّه نحو تقديم تنازلات منحة أو رضوخا بطيبة خاطر من النظام، بل هو عملية محسوبة لعدة أسباب. الأول، استنفاد غرض الموجة القمعية الأولى التي سبق تجريبها، وأثبتت جدواها في المناسبات الاحتجاجية التي شهدتها إيران في الأعوام الماضية. ونظرا إلى أن القمع الدموي والقتل بالرصاص الحي لم يوقفا الاحتجاجات الحالية، بل زادا من حدّتها، ويمكن للاستمرار في هذا النهج أن يوسّع دائرة الاحتجاجات أكثر كما هو حاصل، على نحو خاص في مناطق بلوشستان التي تعاني من تمييز شديد، وكردستان مسقط رأس الشابة أميني. الثاني، انخراط أطراف أوسع من المجتمع الإيراني، فبعد أن كانت المظاهرات تقتصر على الفتيات، بدأت تشارك فيها طالبات الجامعة وأمهات وفاعلات ثقافيا وإعلاميا يحظين بمكانة رمزية، وظهرت مواقف تحدٍّ لأعمال القمع والنظام ساهمت في تحطيم بعض حواجز الخوف. الثالث، الدعم الدولي الذي تلقاه الاحتجاجاتـ والذي تمثل بممارسة ضغوط سياسية، وفرض عقوبات اقتصادية أميركية أوروبية بسبب إفراط النظام باستخدام القوة.
لن تكون النتيجة لصالح النظام في جميع الأحوال، سواء حلّ في القريب العاجل الشرطة الأخلاقية وأجرى مراجعة قانون الحجاب أم لا، ويكفي الحركة الاحتجاجية أنها باتت على يقين بأن بعض مطالبها الأساسية يمكن أن يتحقق بفعل التضحيات والضغط. ويدرك المتظاهرون، في الوقت نفسه، أن تكتيك السلطة يهدف إلى وقف الاحتجاجات، ما يمنح النظام وقتا للاستراحة والتفكير، من أجل هجوم أوسع لاجتثاث جذور الحركة الاحتجاجية، مهما كلف ذلك من اعتقالات وقمع وإراقة دماء، كما حصل في مرّات سابقة. ولذا، المواجهة مرشّحة لأن تأخذ أطوارا جديدة، يرتفع فيها منسوب القمع أكثر، ويزداد الضغط على النظام الذي سيبدأ بالتشقّق كما تفيد مؤشرات عديدة داخل المؤسسة الدينية التي ليست كلها على قلب رجل واحد، ولا تؤيد خط الحل الأمني الذي يمثله المرشد الأعلى علي خامنئي والرئيس إبراهيم رئيسي صاحب السجل القمعي، والحرس الثوري المرشّح للانخراط أكبر في عمليات القمع في الفترة المقبلة.