إيران أولاً... لا حزب الله ولا "حماس"
إذا كان ثمّة حِكمة أو مَثَل يُعبّر عن الشخصية الإيرانية، بعد صناعة السجّاد والشطرنج، فهو المثل الإيراني، إنّك تستطيع أن تُردي عدوّك قتيلاً بالمواظبة وحسب على تمرير "القُطْنة" على وريده. في ضوئه، نستطيع أن نفهم ما تسمّيه طهران الصبر الاستراتيجي في معرض ردّها على من يتهمها بالرخاوة أو حتّى الخوف أو تغليب المصلحة على المبدأ أو على الخطاب المُعلَن. ومن ذلك أن تُنتهَك سيادتها، ويُقتل في أرضها ضيفٌ عزيزٌ عليها، وأحد أضلاع محورها للمقاومة (الشهيد إسماعيل هنيّة)، فلا تسارع إلى الردّ، بل تعتصم بالصبر الاستراتيجي معطوفاً على وعيد بالردّ تكرّر واُبتذِل حتّى أصبح مُجرَّد لازمة لغوية لا تُؤخَذ بجدّية.
في المؤتمر الصحافي الأوّل للرئيس الإيراني الجديد، مسعود بزشكيان، الذي عقده قبل أيّام، حرص الرجل على مزيد من تخفيض أيّ توقّعات مبالغ فيها من حكومته إزاء ملفّات عدّة، وأهمّها بالطبع العلاقات مع الولايات المتّحدة ودول الجوار المُلتهِب، فالأميركيون إخوة للإيرانيين، والمشكلة مع ساستهم، فإذا تراجعوا عن استهداف طهران فإنّ الأخيرة سترّد التحيّة بأحسن منها. فهل غادر الإيرانيون بهذا شعارهم "الموت لأميركا"؟ ... ليس الأمر بهذا التبسيط، فالسياسة الإيرانية مُركّبة ومُخاتِلة، والتعبير عنها لا يتّسم بالدقّة، بل بتعدّد المعاني والمقاصد، وأحياناً بالتضليل، فما يُقال ليس بالضرورة ما يُعتمَد، فهي في خضمّ صراع مع الأميركيين في المنطقة، بغضّ النظر عن حدّته أو درجته، لكنّها تديره بطريقتَين، مرّةً بالاشتباك الحذر في مفاوضات برنامجها النووي وملحقاته، وأخرى بأدواتها من حزب الله إلى الحوثي. وبينما يقوم الساسة الإيرانيون بتبريد حدّة خطابهم، نرى أنّ ذلك لا ينطبق في أحوال كثيرة على أدوات إيران، ولا نقول حلفاءها.
يعكس هذا تعدّدَ الوسائل التي تلجأ إليها إيران لتغليب مصلحتها أولاً، كما يعكس استراتيجياتٍ ذكيةً، وإنْ كانت مكشوفةً، لترك الباب موارباً دائماً، والمراوحة بين الدبلوماسية والتهديد باستخدام القوّة، أو حتّى استخدامها، لكن عبر أدواتها، وعندما لا تُفيد هذه السياسة القائمة على المراوحة بين الخطاب ونقيضه، وتجد إيران نفسها محشورةً في الزاوية، كما في حالة اغتيال هنيّة في قلب عاصمتها، تلجأ إلى تعويم خطابها واستدعاء مفهوم الصبر الاستراتيجي (القُطْنة إيّاها)، فليس هذا وقت الرد الذي سيأتي حتماً، لكن ما تفعله طهران وتسوّغه لنفسها لا ينطبق على أدواتها، فحزب الله قام بالرد فعلاً على اغتيال القيادي العسكري في صفوفه فؤاد شُكر، وكذلك فعلت جماعة الحوثي، ما يعني عملياً تحييدَ إيران نفسها، وتحصينها من أيّ اشتباك مباشر قد يقود إلى حرب شاملة، والاستثناء الوحيد كان في 13 إبريل/ نيسان الماضي، مع التأكيد أنّه كان محسوباً، وبترتيبات مُعقَّدة إقليمية ودولية بما لا يستدعي ردّاً إسرائيلياً، وهذا لا ينفي أهمّية تلك الضربات الواسعة وغير المسبوقة.
قبل أكثر من 20 عاماً، كان كاتب هذا المقال ضمن وفد صحافي عربي زار إيران، وقابل مسؤولين فيها. كان وزير الثقافة والإرشاد المستقيل، عطا الله مهاجراني، على رأس المركز الدولي لحوار الحضارات، الذي أنشأه الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي في ولايته الأولى، وخلال النقاش دعا مهاجراني كاتب المقال إلى النظر من نافذة القاعة التي استقبل فيها ضيوفه من الصحافيين العرب، وقال له: "انظر إلى شوارع طهران المتّسخة، المزدحمة، هل تعلم أنّنا ندفع ملياري دولار سنوياً لحزب الله، وهو ليس إيرانياً؟ لو أنفقنا هذا المبلغ على شوارع طهران لأصبحت أفضل وأجمل من شوارع باريس".
ذهب خاتمي، ومن بعده جاء محمود أحمدي نجاد، وخلال الانتخابات التي جاءت بالأخير كان شعار أنصار منافسه، مير حسين موسوي، يُسمع عالياً في شوارع طهران، فإيران أولاً، لا حزب الله ولا "حماس"، وهذا ليس طارئاً، بل أساسي لدى كلّ الساسة الإيرانيين، وآخرهم بزشكيان، فعلى البلاد أن تظلّ آمنة من الأذى، أن تربح وتتقدّم سواء بالانفتاح على الغرب أو باستخدام الأدوات في الجوار العربي لإجبار هذا الغرب على أخذ مصالح طهران بالحسبان، سوى ذلك مُجرَّد جعجعة يُصدّقها كثيرون هنا في المنطقة، بينما هي مُجرَّد شعاراتٍ لا يلتفت إليها المواطن الإيراني، ولا يراها، وهو يتجوّل في شوارع بلاده.