إياس الرشيد والموس الكَبَّاس

07 أكتوبر 2018
+ الخط -
شاهدَ الأديبُ السوري الساخر الصاعدُ بقوة، إياس غالب الرشيد، على شاشة التلفزيون السوري، خبراً مصوّراً يَظهر فيه بعضُ الإخوة الإرهابيين الذين عادوا إلى حضن الوطن، بعد أن سلّموا أسلحتهم التي كانوا يمارسون بها الإرهاب للجهات المختصة، وأعلنوا الندم على أنهم سلكوا طريقَ الإرهاب، واعترفوا بأنهم أنفقوا الأموال التي قبضوها من الدول الداعمة للإرهاب على الملذّات الشخصية، وقُبِلَتْ توبتُهم، وأصبحوا مواطنين بعثيين صالحين.
تملكت السيد إياس، في أثناء قراءته الخبرَ، حالةٌ لم يكن يعرف ما هي تسميتُها العِلْمية، فاستنجد بجاره، محمد تركي، الذي أوضح له أن كتب الفلسفة تسمّي هذه الحالة "نوستالجيا"، وتعني الحنين، فاستغرب إياس، وقال له: ألا ترى أن الحنين كلمةٌ واضحةٌ ومفهومة؟ فلماذا نُفَرْنِجُها؟
الأخ أبو سلوم متزوج بشقيقة زوجة الأديب إياس، أي أنه عَدِيْلُهُ، وهو يعمل في رعي الماعز، ومع ذلك يحب فيروز والأخوين الرحباني، وكان حاضراً على الحوار بين إياس ومحمد تركي، فلما سمع كلمة حنين شرع يغني: أنا عندي حنين ما بعرف لمين.. فاضطر إياس لمؤازرته قائلاً: آآآآه. على الرغم من أنه كان يشعر، في تلك الهنيهة، بمغصٍ في أمعائه، وسوّغ المسألة لنفسه بقوله إن كلمة آآآآه تُقَال للتعبير عن الطرب، وعن المغص في الوقت نفسه.
وقال لنفسه: يا أخي، أنا عندي نوستالجيا، أو حنين، وأعرف لمين؛ لسورية طبعاً.. ولكنْ؛ واحدٌ مثلي يعيش خارج البلاد، كيف يعود إلى حضن الوطن؟ ما هي الآلية؟ ما هي الإجراءات الواجبُ اتّباعُها؟ في الخبر التلفزيوني الذي شاهدَه ثمّة شبّانٌ يرتدون ثياباً عسكرية، وقفوا أمام دوريةٍ من الجيش السوري الباسل، وصاح أحدُهم: نحنُ من الجيش الحر، فلكزه زميلُه قائلاً: لا تقل "جيش حر"، إخوتنا في الوطن على الضفة الأخرى لا يحبّون هذه التسمية.. قل لهم "مجموعة مسلحة". فصحح الشاب كلامه، وقال: نحن مجموعة مسلحة، نريد أن نعود إلى حضن الوطن. فصرخ بهم قائد الدورية: ألقوا أسلحتكم، وارفعوا أيديكم، وتقدّموا.
ههنا ظهرت العقدة. وهي أن إياس لا يوجد لديه سلاح خفيف أو ثقيل يسلمه للجهات المختصة. وحتى الآن، يقشعرُّ بدنه عندما يتذكّر المرة الأولى التي حاول فيها استخدام السلاح، وكان سلاحه وقتها "موساً كَبَّاساً ذا سبع طَقَّات". حاول فتحه فوجده بالغ القساوة، ثم وقعت يدُه، بالغلط، على نتوءٍ نحاسي أبيض، وإذا بالموس ينفتح بسرعة، وينغرز رأسُه المدبّب في إبهامه، وبدأ الدم العربي الأحمر ينزف منها، وركضت شقيقةُ زوجته، وهي التي أصبحت زوجةَ عَديله أبي سلوم فيما بعد، إلى المطبخ، وفتحت علبة البن فوجدتها فارغة، ومن توّها ذهبت إلى كيس الطحين وأخذت منه كمشةً، وجاءت بها وأمسكت إبهامَه، وظلت تكبس عليها حتى انقطع النزيف.
قال لنفسه: إذا كان الموس الكباس قد فعل بي هذا، فما بالك لو تحوّلت إلى رامي "بي كي سي" لا سمح الله؟
وجاءه الفرج على هيئة جوابٍ لتساؤلاته، وهو أن للعودة إلى حضن الوطن مثل الإبداع الأدبي، تجليات كثيرة، وحالاتٌ، واحتمالات، وتحتاج خيالا خصبا. لذلك أعملَ خياله، فهداه إلى حل باهر، وهو أن يذهب إلى سفارة الجمهورية العربية السورية، ويطلب مقابلة ممثل الوطن، وهو السفير، و"يحضنه"، أو يأخذ منه، كما يقولُ مؤيدو النظام "عَبُّوطة".. ولكن سرعان ما تذكّر أن السفارة في هذه الدولة قد أُغلقت من زمن بعيد، واستعيض عن السفير بامرأةٍ تحمل صفة "القائم بالأعمال"، وفكّر في أن احتضان السيدة سيكون أمراً طيباً، لولا أن في هذا الموضوع إرباكا شرعيا. وقتها قال لنفسه: يمكنني أن أسلّم على السيدة "القائم بالأعمال" من دون ملامسة، وأحاول أن أحضن المستخدم، وإذا لم يكن هناك مستخدمٌ يمكن أن أحضن العمود الموجود بجانب السفارة، وصلّى الله وبارك.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...