إنّما النصر باستعادة الهوية الفلسطينية نبضها
من أين أتت الممانَعة بتلك الفكرة القائلة إنّ النصر المحتم هو مآل كلّ معركةٍ تخوضها إحدى فصائلها ضد إسرائيل؟ مِن الجدّ المؤسس ربما... من الراحل حافظ الأسد. ومن حرب يونيو/ حزيران 1967 بالذات. بعدما كان جمال عبد الناصر يعلن هزيمته، ويكرّس كلمة "هزيمة" بصفتها مفتاحاً لتعيين تاريخ تلك الحرب. في هذه الأثناء، بالقليل الذي عرفناه عن الجبهة السورية، كان حافظ الأسد، وزير الدفاع، يلملم نفسه، ويخطّط للانقضاض على رفاقه الخطرين، ويتسلم السلطة بكاملها. وينسب بدأب هزيمة حزيران إلى عبد الناصر ومصر وحدهما. وبمساعدة الرئيس المصري أنور السادات، باتفاقية كامب ديفيد، ارتدى الأسد هندام "المقاوم" ولم يهجُره. والبقية الحافلة المعروفة بلحظاتٍ حرجةٍ تمكّنت "الانتصارات" ضد إسرائيل من تبديدها... التي وصلت بنا إلى بشار، ومعه محور الفصاحة والرطانة والانتصارات على امتداد النظر.
هكذا، تكوَّن مفهوم النصر الذي يعني، بمجمله: صدّ العدو عن مآربه، بأكلافٍ بشريةٍ وعمرانيةٍ خيالية. ثم الخروج بتعزيز سلطة هذا المنتصر وتثبيتها على الأرض التي انطلق منها لخوض معركته. انبسطت براحة وسط الشعوب والدول التي اخترقتها إيران الممانعة: يمنية، لبنانية، سورية، عراقية... حتى بلغ الأمس الفصيل الفلسطيني من هذا المحور "حماس"، وللمرّة الرابعة، بعيد وقف إطلاق النار مع إسرائيل، فكان أول نشاط علني له، عرضاً عسكرياً، أي تأكيداً لهذه السلطة، بأسلوب أقل حذاقةً من ذاك الذي اعتمده حافظ الأسد. لكن بجوهر لا يزيح عنه. وآيته: انتصرنا... والدليل على ذلك سطوتنا على الذين نحكمهم.
"حماس" المنتصرة المنتشية، لم تخفِ منبع هذا "الانتصار" أي إيران. إسماعيل هنية شكرها، لما قدّمته من مال وسلاح وتقنيات
وحدة حال بين الممانعين وحلفائهم والمستفيدين من غنائمها لحنت تَرْنيمة انتصار "حماس" الجديد، وزيّنته بأوصافٍ لا تُحصى. من حزب الله إلى نظرائه في الإقليم، إلى شخصياته "الرسمية" والأحزاب المنضوية تحت رايته الإيرانية. وأضعفهم في العقل وفي اللغة جبران باسيل، الذي استوحي من الإعلانات التجارية صيغة تسويقية، فقال بعد إعلان "حماس" لانتصارها: "لا هزائم بعد اليوم". كأنّه يقول: "لا ناموس بعد اليوم" أو "لا ذباب بعد اليوم".
المهم أنّ "حماس" المنتصرة المنتشية، لم تخفِ منبع هذا "الانتصار" أي إيران. إسماعيل هنية شكرها، لما قدّمته من مال وسلاح وتقنيات. بل خرجت أخبارٌ من قادة فصائل فلسطينية بحثت مع بشار الأسد إمكانية إعادة العلاقات مع "حماس" بعدما توترت إثر الثورة السورية، وأنّ "حماس" توسِّط حزب الله وإيران لأجل ذلك بـ"جسّ" نبضهما. وبذلك تكتمل معضلة "انتصار حماس" إذ تتحرّك شاكرة ممنونة صوب المليشيات والشبّيحة الذين قتلوا الشعب السوري وهجّروه، ودمروا سورية. المقاومة التي تدافع عن الشعب الفلسطيني في القدس تسكت عن الذي جوّع فلسطينيي سورية وحاصرهم وطردهم، وساواه ببقية الشعب السوري، تنكيلاً وتهجيراً وقتلاً.
وبصرف النظر عن النقاش الدقيق بشأن الإخفاقات الإسرائيلية والنجاحات الحماسية، وهي دائماً نسبية، لأنّنا مصابون بعقدة النقص التأسيسية في علاقتنا مع إسرائيل، نرى أيّ خدش لأمنها كأنّه يعبّد الطريق السريع نحو فلسطين... أقول، بصرف النظر عن ذلك، هذا انتصار "حماس" أخيراً توّج بقرار دولي وإقليمي بالتدخل هذه المرة في غزّة، خلافاً للمرحلة الماضية، حين كان السند المهيمن هو إيران وأذرعها. تدخل اقتصادي سياسي، وأمني ربما. واهتمام بوقف للنار، أسرع مما سبقه من جولاتٍ غزّية. وهذه القوى المستجدّة مدفوعة بديناميكية جديدة، هي تلك التي تصدّرت الأخبار الموازية عن الانتفاضة الفلسطينية قبل أيام.
التظاهرات التي عمّت العالم الغربي، أكثر من العربي، مشى فيها خليط من الأشخاص والجنسيات والأفراد والأحزاب
وهذه الديناميكية الجديدة تخص الشعب الفلسطيني كله، لا "حماس" وحدها. في هذه الجولة، أخيراً، المختلطة بالعسكري والمدني، خرج الشعب الفلسطيني واحداً موحّداً، وفي كلّ بقع الدنيا. من الداخل والسلطة والمخيمات المجاورة والشتات في جميع أنحاء العالم... الإضراب العام في الثامن عشر من مايو/ أيار الحالي، متأخراً ثلاثة أيام عن ذكرى النكبة، شمل لأول مرة منذ عقود جميع أنحاء فلسطين الكبرى. والتظاهرات والاعتصامات... وعودة إلى جذر القضية: فلسطينيون يطالبون بحقهم في أرضهم. مجرد حقهم بأرضهم. ثم هذا الصدى العالمي، الشعبي خصوصاً، بعد الرسمي. التظاهرات التي عمّت العالم الغربي، أكثر من العربي، مشى فيها خليط من الأشخاص والجنسيات والأفراد والأحزاب. كان يمكنك أن ترى فيها الملونين، المثليين، العابرين للجنس، مثلما كان يمكنك أن تشاهد الأعلام المختلفة لبلدان عرفت نكباتٍ مماثلة: علم اسكتلندا وإيرلندا وعلم الثورة السورية... ومشاهير من الفنانين والكتّاب، وتلك الشخصية الفريدة من نوعها التي تدخل على فلسطين من باب الجمال والأزياء، بيلا وشقيقتها جيجي حديد. عارضتا أزياء، بهيئة خلابة، أميركيتان، من أصول فلسطينية، يفوق عدد متابعيهما مائة مليون. تتألق بيلا حديد بزيّها الفلسطيني في التظاهرات، بكلماتها وسحرها، تجرّ إلى فلسطين أصدقاء من المعمورة، من غير العالم النضالي الذي ألفناه، ولا تنسى اليهود الأميركيين، والسود منهم خصوصاً. وتلك الشخصية التي تمثل الاثنين: روبن تلوشكين، اليهودي الأميركي الأسود، تجده وسط التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين. يشدد على التلاحم بين حركة "حياة السود مهمة" والفلسطينيين الأميركيين. ويسرد بداية الصلة بينهما: في تظاهرات فيرغسون عام 2015، عندما كانت الشرطة ترمي على المطالبين بحقوق السود قنابل مسيلة للدموع، ومصنوعة في الولايات المتحدة. كان فلسطينيو أميركا يرسلون إليهم بأنّها هي القنابل نفسها التي رماها عليهم الإسرائيليون في الضفة الغربية، وبأنّ عليهم القيام بإجراءات كذا وكيت لحماية أنفسهم منها.
مهما يمكن أن يقال عن الإمبريالية الأميركية، فلا يصلح السكوت عن تلك المعضلة التي واجهها بايدن، وهو تحت ضغوط التدخل لمصلحة وقف إطلاق النار
الأقوى من ذلك كلّه هو التبدّل الحاصل في الحزب الديمقراطي (الحاكم)، فالرئيس الجديد صعد على ائتلاف التنوع بأشكاله. أي ائتلاف لأصحاب حقوق: إنسانية، جنسية، مدنية، حقوقية، نسوية، بيئية... إلخ. وممثلوهم هم الآن قادة الحزب الحاكم. الجيل الجديد من هؤلاء الديمقراطيين، فيه أيضاً شخصيات جديدة: مثل رشيدة طليب، النائبة عن الحزب ذات الأصول الفلسطينية، التي قادت تظاهراتٍ بعشرات الآلاف من العرب في ديربورن، مستنكرين تكاسل الرئيس عن وقف مجزرة غزة، وذلك في أثناء زيارته هذه المدينة. أو مثل مستشار وزير الخارجية الأميركي، هادي عمرو، الذي يوصف بأنّه من أصل "شيعي لبناني تقدّمي مؤيد لحقوق الفلسطينيين". وقد أُرسل إلى إسرائيل للمفاوضة على وقف إطلاق النار مع غزة. وهذه أيضاً شخصية جديدة على خريطة القضية، وأدوار جديدة .
ومهما يمكن أن يقال عن الإمبريالية الأميركية، فلا يصلح السكوت عن تلك المعضلة التي واجهها بايدن، وهو تحت ضغوط التدخل لمصلحة وقف إطلاق النار، أنّ الائتلاف ذاته الذي أوصله إلى الرئاسة يمكن أن يشكل ثقلاً حصيناً ضد التقاليد المؤيدة لإسرائيل داخل الحزب الديمقراطي (الحاكم)، بل ضد التاريخ الشخصي العريق في دعمه غير المشروط لإسرائيل.
كلّ هذا التقدم بالقضية، الذي يمكن اعتباره نوعاً من مكونات الصعود للانتصار، وليس الانتصار بحد ذاته، هو خارج حسابات "حماس" إلّا ما كسبته من وساطة مصرية - أميركية لوقف إطلاق النار، هذا التقدّم بالقضية هو الآن برسم الشعب الفلسطيني الذي استعاد نبضه.