إنّا هنا باقون
بعد 40 عاماً، أفرجت سلطات الاحتلال الإسرائيلي عن الأسير كريم يونس. ألقي القبض على يونس عام 1983. هل تذكر شكل العالم في ذلك الوقت؟
كان رونالد ريغان رئيس الولايات المتحدة في دورته الأولى. تولّى الحكم منذ عامين فقط. مارغريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا، منذ أربعة أعوام، وستستمر في الحكم سبع سنوات أخرى. لم تكن هناك كتلة الاتحاد الأوروبي. تكونت بعد اعتقاله بثماني سنوات. كانت هناك دولة اسمها الاتحاد السوفيتي. والحرب الباردة ما زالت تستقطب العالم. لم يصل ميخائيل غورباتشوف إلى السلطة بعد. في ذلك العام، أنقذ ضابط سوفيتي اسمه ستاتيسلاف بيتروف، العالم من الفناء نتيجة خطأ نووي، فقد عصى الأوامر بالرد على هجوم نووي أميركي مزعوم، وقرّر أن الإنذار الذي وصل إليه زائف. كان قراره سليماً. وبسبب ذلك، لم تقع حرب نووية كان يمكن أن تنهي العالم بعد القبض على كريم يونس بشهرين فقط.
دخل يونس السجن في عالم مختلف. وحين خرج يوم 5 يناير/ كانون الثاني 2023 وجد عالماً لا يعرفه. ولولا الاحتفاء الفلسطيني بالأسير القديم لقلنا إنه وجد عالماً لا يذكُره هو نفسه. لكن المقاومة الفلسطينية ظلت دوماً هي مقاومة ذاكرة. ترفض النسيان. وترفض أن يبتلعها العدم.
عام 2017 كنت ضمن رفقة سعيدة الحظ من الروائيين العرب، وجّهت لهم الدعوة من وزارة الثقافة الفلسطينية للمشاركة في مؤتمر الرواية الفلسطينية. وهناك، في رام الله، صادفنا اعتصاماً لأسر الأسرى الفلسطينيين. كانت صور الأسرى المعلقة تحمل أسماءً لا يذكرها الإعلام، ولا يعرفها منا أحد. لكنها كانت تحمل تواريخ اعتقال مفجعة. اعتقالات دامت عقودا. وتحت الصور تجلس أمهات وأسر لم تفقد الأمل في اللقاء، ولا ذبلت قدرتها على المقاومة. حين قال مرافقنا إننا وفد من الروائيين العرب، ظنّت الأمهات أن الجيوش العربية قد أتت أخيراً. كأنما كنّا طليعة إجابة ما يسأل عنه الفنان محمود الجندي في فيلم ناجي العلي. لكننا كنا أضعف من ذلك. كنّا مجرّد شهود جدد على المأساة. احتضنتنا أم أسير، وقالت في لوعة "لا تتركونا. حدّثوا العالم عنا". لم نجد إلا الدموع المعلقة نجيبها بها، وانحنيت أقبّل يدها. لم أكن أعرف اسم ابنها. لكني كنت أعرف أنها أم، وأنها تفتقد أن يقبّل ابنها كفها، فتطوّعت بذلك تقديراً لحزنها وصمودها.
كانت تلك زيارتي الثانية لفلسطين. قبلها بعام، في الأولى، نادت علينا بائعة لوْز في أحد شوارع أريحا أيضاً تطالبنا بألا نتركهم. قالت لنا "تعالوا لزيارتنا". وحمّلتنا لوزا كثيرا. لم نُخبرها أن الأمر ليس بيدنا، وأن لزيارتنا ثمنا قد لا يقدر الجميع على دفعه. لكن ما نستطيعه أن نزعج العالم حتى لا ينسى. أن يتذكّر دوماً أن هناك فلسطين. وأن هناك قضية واحتلالا، وشعبا كاملا يناضل حتى لا يقع في النسيان.
في مقال عنوانه "وأنا الذهاب المستمرّ إلى البلاد"، ذكر طارق البكري أن رئيسة الوزراء الإسرائيلية السابقة، غولدا مائير، قالت في مقابلة مع صحيفة الصنداي تايمز "لا يوجد شيء اسمُه الشعب الفلسطيني، تتحدّثون كأننا جئنا وطردناهم من بلدهم، لم يكونوا موجودين"... أمثال كريم يونس يقولون نحن كنّا هنا، وسنظلّ هنا. لذلك كانت كلماته الأولى بعد الحرية:
"أحيي أبناء شعبنا الفلسطيني العظيم الذي يناضل منذ 100 عام من دون أن يرفع الراية البيضاء". وكما قال توفيق زياد: إنا هنا باقون/ فلتشربوا البحرا/ نحرس ظلّ التين والزيتون/ ونزرع الأفكار/ كالخمير في العجين... ستظل فلسطين قضيةً عصيةً على النسيان حتى تنتصر الحقوق.