إمبراطورية في النعش
ربما كانت محض طقوس جنائزية اعتادت عليها العقلية البريطانية، غير أن للمبالغة التي رافقت طقوس جنازة الملكة إليزابيث الثانية، وجهًا خفيًّا، قد يحتاج إلى خبراء في حقل بزوغ شموس الإمبراطوريات وأفولها لحل ألغازه، فأن تمتد الطقوس إلى ما يلامس العشرين يومًا، وأن يُسرى بالجثمان من مقاطعة إلى أخرى، مزدانًا برموز الملكية وأدواتها من تيجان ومجوهرات وأيقونات، وأن تغلق طرق رئيسية وفرعية، وتخلى ميادين، وتفرغ جموع من العسكر والشرطة لشؤون التنظيم والمتابعة، وكأن الزمن توقف في هذه الدولة مع توقف نبضات الملكة .. ذلك كله مدعاة لأسئلةٍ شتى حول السيكولوجية الجمعية للبريطانيين، الذين لا يزالون يتمسّكون، على ما يبدو، بخيوط الشمس الغاربة.
أغلب الظن أن هذه الطقوس ما زالت ترتبط بالحسّ "الإمبراطوري" لشعبٍ كان لا يزال حتى رحيل الملكة إليزابيث، غير مصدّق أن الشمس غربت عن امبراطوريته، ثم ارتطم بغتة بهذه الحقيقة عندما رأى الملكة التي رافقته طوال سبعين عامًا تجمع أطراف ثوبها الطويل، وتغرب عن المشهد.
قبل ذلك، لم يكن الشعب البريطاني مدركًا هذه الصدمة، ويتعامل مع الآخرين بذلك الاستعلاء المفرط الذي يصعب عليه التحلّل منه، والذي غالبًا ما يظهر عند أدنى احتكاكٍ مع "الجنس الآخر"، غير البريطاني بالطبع، ويجد أبرز تجلياته في كرة القدم، فالمعروف عن جمهور الكرة الإنكليزي أنه الأشد شغبًا على المدرّجات، وتحسب له الدول المنظمة للمسابقات ألف حساب عندما يشارك فريقه في مباراة ما، ضدّ الطرف الآخر، الذي يُفترض أن يكون محض عبد أو أسير يلعب من أجل منحه حريته إن شاءت "الإمبراطورية" التي تحكمه، وفق رؤية هذا الجمهور.
والجمهور نفسه، يقف اليوم، حائرًا، من رحيل ملكته. ولأنه لا يريد تصديق ذلك، تعمّد إطالة أمد الجنازة، علّه يستوعب الحقيقة المغايرة التي جعلته عاريًا ومكشوفًا أمام شمسٍ جديدة لم تعد تشرق عليه، بل على إمبراطوريات أخرى، خطفت الزمام من بين يديه.
أما الملكة إليزابيث الثانية، النائمة الآن في نعشها، فكان من حسن حظها، أنها استوت على عرش بريطانيا، في مرحلةٍ قلقةٍ للغاية من عمر البلاد، بدأت بانخراط بريطانيا في حرب عالمية فتّاكة خلّفت وراءها خسائر ما كان لها أن تتحملها، لولا موارد مستعمراتها، غير أن ثمن الحرب كان خسارة تلك المستعمرات نفسها، وفي القلب منها درّة التاج البريطاني، الهند، التي استقلت عام 1947.
آنذاك لم يكن الشعب البريطاني مدركًا فداحة الخسارة، ومن هذه النافذة، حصرًا، تسللت إليزابيث إلى العرش، محتفظة برموز العظمة من دون العظمة ذاتها، وهي الرموز التي تشدّق الشعب بها أيضًا، ورأى فيها عزاء لخساراته.
باختصار، كان الشعب يرى في ملكته مملكته الضائعة، وفي ذيل ثوبها الطويل في الاحتفالات الرسمية، امتداد الإمبراطورية، وفي تاجها المزيّن بيواقيت المستعمرات وألماسها، المستعمرات ذاتها.
كان يرى في قلعة باكنغهام المسمّاة قصرًا خزنة تحوي موارد المستعمرات، بدءًا بتوابل الهند وأرزّها، وأموالها التي ناهزت 45 تريليون دولار على امتداد عقود الاستعمار، مرورًا بسكّر مستعمرات البحر الكاريبي، والقطن المصري، فكل موارد الشعوب الأخرى كانت مستباحةً للتاج البريطاني، بلا استثناء ما دام الجنديّ البريطاني قادرًا على الوصول إليها، غير أن ذلك كله تلاشى برحيل الملكة، فقد اكتشف الشعب البريطاني أن ما يسكن النعش هو الإمبراطورية لا الملكة، وبات لزامًا عليه أن يتعامل مع غروب الشمس حقيقة ماثلة في قلب الجثمان. وربما صار يدرك الآن أنه تعرّض لخداعٍ مبيّتٍ عندما قيل له إن التاج البريطاني ما زال على رأس 15 دولة، من دول الكومنولث؛ لأن الرمز لن ينوب يومًا عن الأصل، بل آن له أن يقرّ بحقيقة أن بريطانيا "العظمى" لا تتجاوز مساحتها 209 آلاف كيلومتر مربع، وأنها لم تعد أزيد من مقاطعات قابلة للتفكيك والاستقلال والتمرّد على التاج، وبأن الفوز في لعبة كرة لن يعيد الشمس إلى إمبراطوريته.