إلى متى يستمرّ هذا العبث؟

02 يناير 2015

مجلس الأمن يتداول مشروع القرار الفلسطيني (30 ديسمبر/2014/Getty)

+ الخط -

لا ينفكّ رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، والدائرة الضيّقة من حوله، يمارسون العبث والارتجالية في قيادتهم المشروع الوطني الفلسطيني، على الرغم من أن مشروعية قيادتهم، نفسها، محلّ شك كبير. غير أن ذلك، لا يبدو أنه يشكّل رادعاً لهم عن التفرّد في مصير قضية عادلة، كقضية فلسطين. ولم يكن توجّه هذه القيادة، الأخير الفاشل، إلى مجلس الأمن الدولي عبر مشروع "عربي"، يهدف إلى "إنهاء" الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، إلا دليلاً جديداً يؤكّد عدم كفاءة هذه القيادة التي تتحكّم في مفاصل القرار الفلسطيني.
وبعيداً عن الغوص في تفاصيل المشروع الموءود في أروقة مجلس الأمن، يوم الثلاثاء (30/12)، والذي دعا إلى إجراء مفاوضات فلسطينية-إسرائيلية تستند إلى حدود عام 1967، وعلى أساس التوصّل إلى اتفاق "سلام" في غضون 12 شهراً، ينتهي بانسحاب إسرائيلي شامل في نهاية عام 2017، فإن هذا المشروع لم يكن محل مشاورات فلسطينية وطنية، ولم يحظ بإجماع، ولا حتى بأغلبية بين شرائح المجتمع الفلسطيني والمقاومة. بل إن تفاصيل المشروع لم تعرض، كذلك، على "القيادة الرسمية" الفلسطينية، ممثّلة باللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، والتي يضرب عباس بسيفها عند الحديث عن مشروعية هيمنته على القرار الوطني الفلسطيني. ويكفي، هنا، التذكير بمواقف الجبهتين، الشعبية والديمقراطية لتحرير فلسطين، الفصيلين الأكبرين في منظمة التحرير، بعد حركة فتح، واللتين أكّدتا أنهما لم تطلعا على مشروع القرار الفلسطيني-العربي إلى مجلس الأمن، واتهمتا عباس بـ"الهيمنة" و"التفرد".

وعودة إلى العبثية والارتجالية في قرارات هذه القيادة "المهيمنة" و"المتفردة"، والتي يحار المرء في فهم المنطق وراءها، والناظم الذي يُؤَطِّرُها. خذ، مثلاً، توقيت تقديم مشروع القرار. فعباس ومن حوله أصرّوا على التقدّم بمشروعهم إلى مجلس الأمن في الثلاثين من ديسمبر/كانون الأول الماضي، على الرغم من معرفتهم بصعوبة تمريره ضمن تركيبته تلك.
ولو أن تلك القيادة وافقت على تأجيل التصويت أياماً، ليكون مطلع العام الجاري، بدل نهاية العام الماضي، لكانت إمكانية تمرير المشروع أكبر، اللهم إلا إذا أفشله "فيتو" أميركي، كما هو متوقّع دائماً. فمشروع القرار نال ثمانية أصوات من أصل 15 في مجلس الأمن، وهو كان بحاجة إلى تسعة على الأقل لتمريره، على افتراض أنه لن يكون هناك "فيتو" أميركي. رواندا وكوريا الجنوبية امتنعتا، مع ثلاث دول أخرى عن التصويت، بضغط من الولايات المتحدة. أيضاً، أستراليا، كانت الدولة الوحيدة، إلى جانب الولايات المتحدة، في التصويت ضد مشروع القرار. هذه الدول الثلاث، روندا وكوريا الجنوبية وأستراليا، بالإضافة إلى اللكسمبرغ، لن تكون أعضاءً في الدورة الحالية لمجلس الأمن، وستحلّ محلها ماليزيا وفنزويلا وأنغولا وإسبانيا، وهي دول أقرب إلى الموقف الفلسطيني. وعلى الأقل، فإن ماليزيا وفنزويلا كانتا ستصوّتان لصالح مشروع القرار، بمعنى تأمين الأصوات التسعة المطلوبة.
أما عن لماذا إصرار قيادة عباس على التوجّه في ذلك التوقيت "الخطأ" إلى مجلس الأمن، فإن له تفسيراً واحداً، وهو أن تَكْفِيَ الولايات المتحدة مؤونة استخدام "الفيتو"، وبالتالي، عدم "إحراجها"، وتجنباً لغضبها، خصوصاً وهي تحاول جاهدةً الإبقاء على تحالفها ضد "الدولة الإسلامية في العراق والشام" متماسكاً.
أيضاً، وضمن سياق العبثية التي تمارسها قيادة الأمر الواقع الفلسطيني، يعيد مشروع القرار الفاشل اجترار كل الأخطاء التي ما فتئت ترتكبها القيادة نفسها منذ أكثر من 21 عاماً، أي منذ توقيع اتفاقية أوسلو في سبتمبر/أيلول 1993. فالمشروع يتحدث عن انسحاب إسرائيلي تدريجي من الأراضي المحتلة عام 1967، ينتهي بانسحاب كامل نهاية عام 2017، أي بعد سنوات ثلاث. بمعنى العودة إلى صيغة أوسلو التي ما زالت القضية الفلسطينية تدفع ثمنها إلى اليوم. كما أنه يتحدث عن إنشاء دولة فلسطينية "على أساس من" حدود 1967 (وليس على حدود 1967)، مع إمكانية تبادل أراضي محدودة. وعن القدس، يناقض مشروع القرار نفسه، ففي المقدمة، يتحدّث عن "القدس الشرقية" عاصمة للدولة الفلسطينية، لكنه في مكان آخر يشير إلى "حلّ عادل"، تكون فيه القدس "عاصمة لدولتين". وكذلك الحال بالنسبة إلى الاجئين الذين ينبغي أن يكون هناك "حلّ عادل ومتفق عليه" لقضيتهم... إلخ.
يؤكد كل ما سبق، أن قيادة الأمر الواقع الفلسطيني أصبحت عبئاً على القضية الفلسطينية، ومرتهنة كلياً للاحتلال الإسرائيلي وأجندته. فرئيسها لا يرى حلاً إلا بالتفاوض السلمي، وعبر القناة الأميركية، على الرغم من أن إسرائيل جعلت، عبر سياساتها الاستيطانية، من إمكانية قيام دولة فلسطينية "متواصلة وقابلة للحياة" أمراً مستحيلاً، في حين تثبت الولايات المتحدة، يوماً بعد آخر، أنها عاجزة وغير راغبة في ممارسة أي ضغط، ذي معنى، على إسرائيل. أيضاً، أصبحت السلطة الفلسطينية، راضية أم كارهة، مقاولاً للاحتلال الإسرائيلي، مهمته تجميل صورته البشعة. فالسلطة تقوم، اليوم، بكل الأعمال القذرة نيابة عن إسرائيل، فهي تلجم غضبة الشعب الفلسطيني، وتقمع مقاومته، حتى السلمية منها، وتنوب عنه في تحمل مسؤولية السكان وأعبائهم، في حين أنها لا تملك أي سلطة حقيقية على الأرض.
أبعد من ذلك، فإنه وعلى الرغم من الإهانات المتكرّرة التي توجّهها إسرائيل لهذه السلطة وقيادتها، والتي ليس أقلها اغتيال القيادي في فتح، والمسؤول في الحكومة الفلسطينية، الشهيد زياد أبو عين، قبل أسابيع، فإن عباس ما زال يرفض أي حديث عن وقف "التنسيق الأمني" معها. دع عنك تهديده الفارغ بالانضمام إلى محكمة الجنايات الدولية، حيث تسمع جعجعة ولا ترى طحيناً. وذلك كله يفعله عباس والدائرة الضيقة من حوله، في حين تجدهم أطرافاً مساهمين في التحريض على قطاع غزة وحصاره، ورفض استلام شؤونه ورفع المعاناة عن أبنائه المنكوبين منذ قرابة ثماني سنين.
نعم، تستحق فلسطين قيادة أفضل من هذه، قيادة تملك مشروعية شعبية حقيقية، وتمثّل التوافق الفلسطيني، ولو في حدوده الدنيا، وتعمل لخدمة المشروع الوطني، لا لخدمة مصالح حفنة استمرأت الألقاب الفارغة، والغنى الفاحش، على حساب نكبة شعب مظلوم، وضياع قضية عادلة.