إغلاق فندق ... رثاء بلد

22 ابريل 2020

بعد 70 عاما.. فندق البريستول في بيروت يغلق أبوابه

+ الخط -
اختتام فندق البريستول البيروتي رحلته عن عمر السبعين يختصر حال بلد رفع رايات الاستسلام للجميع، وفي كل الحقبات، من دون أن يشبع أحد من استسلاماته. سلّمت بيروت مقاهيها العريقة في شارع الحمرا إلى سلاسل مطاعم الوجبات السريعة، فكان المطلوب أكثر. تنازل البلد عن مفاتيح سينماته ومسارحه ومتاحفه إلى متاجر بيع الألبسة، فتبيّن أن نبوءة لبنان هو "إما هانوي أو هونغ كونغ" بحاجة لجثث إضافية لكي تحسم هانوي المعادلة لمصلحتها، فضُربت صحافته ونُكّل بمنابره الثقافية. كان لا يزال هناك ضحايا مرشّحون إضافيون: تم تجويف الجامعة اللبنانية طائفياً وأكاديمياً. ضربت النقابات باكراً خلال الحرب الأهلية وبعدها. السلم الأهلي رهينة لدى حزب يتفاخر بأنه إيراني الصنع والسلاح والتمويل والعقيدة. أما ما يسميها "الكيانيون" الصيغة اللبنانية، أو الخلطة الغريبة التي بُني عليها هذا البلد على أساس تزاوج مقدار من الحرية مع نصف مقدار من الديمقراطية في وعاء من الطوائف وثرثرات أيديولوجية كثيرة، فقد دُفنت مع إطلاق أول رصاصة في الحرب الأهلية. وعندما استفاق الوهم باحتمال إحياء شيءٍ ما من الصيغة المعدّلة بتوازنات طائفية ــ طبقية جديدة تترجم ميزان الرابحين والخاسرين في حرب الـ15 عاماً، كانت دنيا جديدة قد وُلدت، وتحالفات بزغت من واشنطن إلى دمشق فطهران على حساب أطلال طمرها ركام من الجدار البرليني. ولأن الصيغة اللبنانية العجيبة لا تعيش بلا اقتصاد عجيب بدوره، عاشت قاعدة "دعه يعمل دعه يمر" على طريقة الأيديولوجيا اللبنانية ومنظرها الرئيسي ميشال شيحا، بقدر ما عاش تقريباً فندق البريستول، أي ما يناهز العقود السبعة. اقتصاد ظنه عرّابوه وكارهوه أزلياً لشدة بأسه. اعتاش من انعدام مديد للعدالة الاجتماعية، ومن ليبرالية اقتصادية ربما تكون ألهمت عتاة التاتشيرية والريغانية، ومن فلسفة سياسية للطوائف ولدورها في التجارة وفي إحياء نظريات "المتوسطية" ولاحقاً "المشرقية" لجهة النظر إلى النفس وإلى العلاقات مع شعوب الأرض وإلى العروبة والإقليم وفلسطين وسورية والمعسكرات والغرب والشرق. اقتصاد تغذّى من خرافاتٍ رديئةٍ كثيرة في حبكتها عن فينيقيا وعن طائرها العتيد هو ورماده. اقتصاد مصارف يكره الإنتاج لكنه يمجد القيمة المضافة. متيّم بالمدينة ولكنه يحلم بالريف. يلعن ساعة ولادة الفقراء غير أنه لا يستطيع الاستغناء عنهم كأفضل من عبيد وأقل من عمال أصحاب حقوق. اقتصاد من التناقضات يصحو وهو يغني لمنافع تصدير "العقول اللبنانية" إلى الخارج، مع أنه ينام على قصيدة رحبانية تتغزّل بالقرية وبالمجتمع المحافظ الذي يفطر كِشكاً ويميّز بعينين مغمضتين بين "الأصلي" و"الغريب". 
صمد اقتصاد يكره القطاعات الإنتاجية أمام حروب ومليشيات واحتلالات وتبدل معادلات طائفية. تأقلم مع توازنات سياسية كان لكل رموزها حصصها من أرباحه. لكن قوانين معادلة هانوي وحزبها الإلهي أطاحت اقتصاد الخدمات وثالوث المصارف والتجارة والسياحة. انهيار اقتصاد الأيديولوجيا اللبنانية بدأت ملامحه منذ حُسمت هيمنة حزب الله وسلاحه وإيرانه على البلد، ذات "يوم مجيد" لم يكن إلا حرباً أهلية مصغَّرة ارتكبها الحزب عام 2008. تمكّن البريستول من احتضان لقاء 2004 الشهير ضد وصاية النظام السوري، لكنه لم يقدر لاحقاً على استضافة ندوة ضد التحكّم الإيراني بلبنان، ولا على فتح صالاته للتضامن مع الشعب السوري ضد قتَلَته. بعد 2008، بدأت تلوح في الأفق ملامح المرحلة الجديدة: لا قرار سياسياً يسمح بمواصلة ضخ رساميل خليجية في المصارف اللبنانية. خسر هذا البلد الكثير من مزاياه بينما كان يتوهم أن حكام العالم لا ينامون ليلهم قبل الاطمئنان إلى سلمه الأهلي الهش. يحكمه عهد قوي جداً في مراكمة الفضائح والكوارث والسقوط في ما لا قاع له. الأزمة الاقتصادية العالمية كبيرة، إلى درجة أن لا المغتربين ظلوا قادرين على التنعم بالسرية المصرفية اللبنانية وضخ أموالهم في عجلاتها، ولا العالم بقي مفتوناً بأسطورة "سويسرا الشرق". كل هذا وذاك كان قبل ولادة انتفاضة خريف 2019 على كل حال.
الفندق الذي اختار لنفسه اسماً فرنكوفونياً (le Bristol) في منطقة كانت سباقة إلى تكريس اجتياح الأنغلوفونية على مقربة من الجامعة الأميركية ومستشفاها، استسلم لانهيار البلد ولسلاح المليشيا ولنهاية أسطورة اقتصاد الأيديولوجيا اللبنانية. ثم أتى كورونا ليطفئ الأضواء مثلما يفعل آخر المغادرين. الفندق الذي لم يقفل أبوابه يوماً منذ تأسس عام 1951 على تلة في منطقة رأس بيروت، ظلّ يشبه الصيغة اللبنانية بتحولاتها الطائفية والسياسية والحربية التي يعرفها المراسلون الأجانب عن ظهر قلب، وقد اختار الميسورون منهم البريستول لإقاماتهم الصحافية المقتضبة والمديدة. ربما يكون البريستول ملّ البلد، أو ملّ زبائنه المتهافتين على طبق الملوخية الذي اشتهر به مطبخه. نزع نجومه الخمس وتركها للمغرمين بالنجوم العسكرية لكي يزيدوها على رتبهم فوق أكتافهم، وكأنّ في الأنف رائحة بارود في الأفق.
أرنست خوري
أرنست خوري
مدير تحرير صحيفة "العربي الجديد".