إسرائيل وكل عناصر إرهاب الدولة والإبادة الجماعية
يفتح طلب جنوب أفريقيا من قضاة محكمة العدل الدولية "أن يأمروا إسرائيل بوقف عملياتها في قطاع غزّة، واتّخاذ تدابير طارئة عملياً، والتخلي عن القتل القسري للفلسطينيين في قطاع غزّة، والسماح للسكان بالحصول على المساعدات الإنسانية"، على بدايات نوعية ومؤشّرات مهمّة في تطبيق قواعد القانون الدولي، حيث تتهم جنوب أفريقيا إسرائيل بانتهاك اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
وثيقة من 84 صفحة في مقاربة مهمة وقراءة متحرّرة، تفكّك الأسس التي قامت عليها الدولة العبرية، وهي تدين قتل الفلسطينيين والاعتداءات الخطرة على سلامتهم الجسدية والنفسية، وإخضاعهم المتعمّد لظروف إنسانية قاسية لا تُحتمل. جرائم يمكن وصفها بأنها إبادة جماعية، ويمكن استخلاصها من طبيعة وصور ووقائع العملية العسكرية الإسرائيلية في غزّة واستمراريتها. وعلى إسرائيل المثول لتبرير اغتصابها فلسطين، وارتكاب المجازر، وإقامة المستوطنات، واتباع استراتيجية توسعيّة، وتبرئتها من جرائمها المرتكبة وصورها الدموية في قتل الأطفال والنساء والمسنّين على مرأى من المجتمع الدولي.
بدأ العالم يتكلّم بحسّ جديد عن خطر غياب السياسة والقانون، وإنه إذا لم يكن هناك سياسة عالمية، حتماً سيكون هناك مزيد من الحروب، وما جرى في غزّة ليس استثناءً، فالسياسة العالمية حوّلت الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط إلى "معسكر كبير" من القمع والاضطهاد، فتجري فيه حروب أهلية واقتتال وعنف وتهجير، وأوجدت معها سيناريوهات الإقصاء أو الاختفاء لغير المرغوب بهم من دول وشعوب.
ليس من المستغرب أن إسرائيل تمثل النفور العالمي اليوم بتجسيداته المريعة المبنيّة على قصصٍ مأخوذة من مصادرها ووقائعها
الجغرافيا السياسية هذه هي الخطر الأول على الاقتصاد والاستقرار العالمي. والعالم متكلّس، محنّط، متكدّس في أجسامه وضمائره. إنه العالم الذي في رسم نهاياته، يطحن أحلام العالم وآماله واحتجاجاته.
تداعيات الحرب في أوكرانيا، واحتمالات استمرار الصراع بين إسرائيل وحركة حماس أشهراً عديدة، والاضطرابات في البحر الأحمر ستؤثر في المعادلات الاقتصادية، حيث يفيد الاقتصاديون بأن 60% من النتاج المحلي العالمي سيتأثر سلبا. كذلك فإن المحطات الإنتخابية العالمية معطى ثقيل.
تجسّد إسرائيل المشروع الغربي أكثر من أي شيء آخر. الغرب وإسرائيل معاً ليسا السبب في نفور الدول العربية فحسب، بل أيضاً معظم البلدان الأفريقية والآسيوية وفي أميركا اللاتينية التي لم تعد قادرة على تحمّل صور التعالي والتسلط والهيمنة والنظرية الغربية الفوقية والعنصرية الاستعمارية. كأن العالم فردٌ واحدٌ يختزن كل الأفراد. وهذا ما يفسّرعدم التضامن مع أوروبا في مواجهة الغزو الروسي في أوكرانيا. ليس التضامن مع الفلسطينيين من منطق معاداة السامية، بل ضد أوروبا والولايات المتحدة، وهو ما تجسّده إسرائيل في صراعها الطويل لمحو القضية الفلسطينية. حالة استعمارية، غريزية، كاسرة، متوحّشة، مستفزّة. من ذلك العالم القاسي والجنون والوحشية، وما سبّبته وما شهدته فلسطين من مجازر وآلام يلقي اللوم على الولايات المتحدة ذاتها، لأنها لم تكمّل مهمتها في أيٍّ من الأماكن الساخنة، وتركت عناصر الصراع العربي – الإسرائيلي متفاقمةً من دون أي قرار حاسم، وقد أضاعت عقوداً من السنوات، من دون تقدّم بقوة لإنجاز حل سلمي عادل. لذلك، ليس من المستغرب أن إسرائيل تمثل كل هذا النفور العالمي اليوم بتجسيداته المريعة المبنيّة على قصصٍ مأخوذة من مصادرها ووقائعها، ومن الجنود الإسرائيليين، وموثقة في وسائل الإعلام والمراكز الإعلامية والسياسية، وأصبحت أكبر خطر على السلم والأمن الدوليين والمصالح العالمية، حتى الدول التي ما زالت مُمسكة بزمام الأمور في طريقة تقويمها، وما يدلّه ضميرها إلى الحق ومناهضة البربرية العسكرية الإسرائيلية.
جرت محاولاتٌ عديدة لتعريف الإرهاب في كل الدوائر العالمية، وكشفت قصور هذه المحاولات في بلوغ أهدافها
يأتي مضمون المبادرة في توقيت يمثل صرخة للعالم بما يحدُث من حروبٍ ونزاعاتٍ في دول عدّة، وللخروج منها حتى يعيش العالم بسلام، وتمثل فيه إسرائيل هذا الشأن الخطير في إرهاب الدولة، ويجري التصدّي له بعناصر جديدة وجريئة لإدخالها ضمن الجرائم الدولية، وخصوصاً محكمة الجنايات الدولية التي تأسّست عام 1998.
وقد جرت محاولاتٌ عديدة لتعريف الإرهاب في كل الدوائر العالمية، وكشفت قصور هذه المحاولات في بلوغ أهدافها، حين يتعلّق الأمر بدراسة العنف وسلوكيات العدوان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية. هذا الارهاب مارسته الآلة العسكرية منذ 1948، وكرّسته بالمفهوم الحديث لحرب الدفاع التي تعود إلى التفسير اليهودي عن الحرب المقدّسة، وتعود جذور هذا المفهوم إلى اليونان وروما القديمة وفلاسفة القرون الوسطى، في الفكرة ذاتها التي سادت حرب الخليج، إنها حربٌ غير عادلة على الفلسطينيين، وبالتاكيد لا تسودها الإرادة الصلبة التي كسرتها بجدارة كتائب الشهيد عز الدين القسام وشقيقاتها في المقاومة الفلسطينية المسلحة.
دعوى جنوب أفريقيا مأخوذة من ذاكرة تشبه الفصل العنصري الذي واجهته، وتذكّر بالضغوط القانونية الدولية الملزمة لتعريف الإرهاب الدولي (الأفراد والدولة)، وهو الشعار الذي كان قد استُخدم عام 2001 في قرار مجلس الأمن 1373، واتفق عليه عالمياً، وهو بحاجة بعد أحداث غزّة إلى التدقيق والتوضيح، مع بروز محاولات دولية لإبرازه مع الاعتراف بالصعوبات التي تواجهه، من نوع إلزام محكمة العدل الدولية إسرائيل بوقف الحرب والجرائم التي ترتكبها باعتبارها جرائم ضد الإنسانية (أنطونيو غوتيريش)، وتتوافرعناصرها على الأرض قانوناً وفعلاً في غياب المراجع الضرورية والأساسية لمعالجة ذلك في سياقه السياسي أو القانوني، وفي النهاية، ينتحر الإسرائيليون جميعاً.
إرهاب إسرائيل مدعوم من الدولة وسياساتها وأعمالها مباشرة من دون التباس ولا تحفّظ
صدرت، منذ ثمانينيات القرن الماضي، تعريفات كثيرة للإرهاب الدولي، ارتبطت بالسياسة الأميركية، وبواقع التصدّي للجرائم التي استهدفتها في الشرق الأوسط، وفي مواجهة الأنظمة السياسية المعادية في أماكن أخرى، ولا سيما الأميركية، مثل نيكارغوا والسلفادور وغواتيمالا وغرانادا وغيرها، وتطوّرت بعدها، في ما عرف بإعلان "النظام العالمي الجديد" (1999)، وفي قمّة شرم الشيخ لمحاربة الإرهاب (1996)، وبعدها بشهر ارتكبت إسرائيل مجزرة "عناقيد الغضب"، وتلتها أحداث 11 سبتمبر (2001). اعتقدت الإدارة الأميركية أنها تستطيع تخويف العالم بقدراتها الهائلة وحسمها، واعتمدت، في ذلك الشأن، على معادلة أمنت بها وحاولت تطبيقها "فليكرهونا طالما أنهم يخافوننا"، إلا أن هذه المعادلة لم تسفر عن النتيجة المطلوبة، والنتيجة أن حرب غزّة حوّلت كراهية أميركا حقيقة واقعة عالمياً، ومن دون خوف تحت وطأة ذاكرة مثخنة بجراح عميقة من ظلم التاريخ في الشرق الأوسط.
أي تعريف شامل وموضوعي للإرهاب الدولي يجب أن يتناول الإرهابَين معاً، إرهاب الأفراد من رؤساء ووزراء وضبّاط وعسكريين، وإرهاب الدولة، وقد رفضت بعض الدول مثل هذا الموجب المحرج، وامتنعت عن اتّخاذه بحق الدول التي تمارسه إزاء دول وشعوب أخرى، وتحديداً إسرائيل، وبذرائع مختلفة كالدفاع عن النفس أو كرد واحتواء، أو كموقف تصعيد آمن. هذه الذرائع سقطت كلها، ولا تغطيها الوقائع، وتحمّل إسرائيل مسؤولية أمام القانون الجنائي الدولي، حيث إرهابها مدعوم من الدولة وسياساتها وأعمالها مباشرة من دون التباس ولا تحفّظ.