"إسرائيل" هي داعش لا حماس
في الحرب العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية التي تشنها دولة الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، وعلى الشعب الفلسطيني عموماً، من الضروري تناول الخطاب الإسرائيلي الذي يشكِّل العمود الفقري للدعاية الإعلامية الإسرائيلية بالنقد والنقض، خصوصاً محاولاته شيطنة الشعب الفلسطيني، ونزع صفة الإنسانية عنه ليسهل استهدافه، وتأمين الغطاء الغربي لهذا النهج وتبريره. وفي هذا الإطار، لوحظ كم كانت الدعاية الإسرائيلية منسقة ومدروسة وموزعة بين أقطاب الحكم في الكيان خلال الأيام الأولى للحرب، حيث لكلٍّ دوره في ترويجها بكل دقة. ومن المفردات التي ساقها الإسرائيليون، في بداية حربهم الجارية على قطاع غزة، قول وزير الدفاع، غالانت، "إن حماس هي داعش غزة"، فمن هي "داعش" في فلسطين، حركة حماس أم "إسرائيل" التي أعلنت نفسها دولةً دينية، وأقرت في قوانينها يهودية الدولة؟
تَبيَّن منذ بداية الحرب أن ادعاءات قادة دولة الاحتلال حول قطع المقاتلين في "حماس" رؤوس أطفال رضّع خلال توغُّلهم في غلاف غزّة ليس سوى جزء من حملة إعلامية مضللة. وكان المقصود في ادّعائهم هذا استدعاء الصور والأفلام التي نشرها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بدءاً من سنة 2014، والتي أظهرت قطع رؤوس ضحاياها في سورية والعراق ومصر وليبيا وغيرها إلى الذاكرة. وتَبِع هذا الادّعاء قول رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في خطاب متلفز عشية عملية طوفان الأقصى: "حماس هي داعش وسنسحقها وندمرها كما دمّر العالم داعش". وكان المقصود من هذه الادّعاءات والتصنيفات تذكير الأوروبيين وغيرهم بالجرائم والتفجيرات التي اقترفها تنظيم داعش في بعض الدول الأوروبية، قبل سنوات، وذلك بغرض التجييش ضد "حماس" والفلسطينيين بشكل عام، وتحشيد التأييد لدولة الكيان. وقد لاقت هذه السردية نجاحاً رأيناه حين ردّدها بعضهم في الغرب، منهم الرئيس الأميركي جو بايدن، وكذلك وزير الخارجية الأميركي بلينكن، الذي قال "إن ممارسات حماس تستحضر أسوأ ما في داعش".
مجلس حربي يقرّر شؤون السلام والحرب، وهو ما كان عليه الأمر مع "داعش"
وساهمت هذه السردية في إعطاء قادة الغرب دولة الاحتلال الضوء الأخضر لفعل ما تريد بالفلسطينيين، ردّاً على هجوم "حماس"، مبرّرين ذلك بأنه "حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها". وإذ تراجع بعض الإعلام الغربي عما نقله من روايات قطع رؤوس الأطفال بسبب غياب الدليل، وقال البيت الأبيض إن بايدن حين تحدّث عن قطع الرؤوس كان يشير إلى تقارير إخبارية، لكن تلك التقارير لم تتضمّن أدلة، إلا أن ذاك التراجع، ونفي وجود أدلة، لم يؤثّرا على حجم التأييد الغربي الذي نالته الحرب الإسرائيلية على غزّة. كما لم يتوقف الإعلام عن دعم الحرب الإسرائيلية، وعن السكوت عن الجرائم والمجازر التي ارتكبتها قوات الاحتلال بحقّ المدنيين في غزّة، وتدمير المنازل والمشافي والبنى التحتية، علاوة على احتلالها شمال القطاع.
عندما تحدّث قادة الاحتلال عن قطع الرؤوس، واتهموا "حماس" أنها داعش غزّة، أي تكريسها كياناً دينياً شبيهاً بداعش، تناسوا أنهم هم أنفسهم قد أعلنوا يهودية الدولة الإسرائيلية، أواسط يوليو/ تموز 2018، عبر قانون "الدولة القومية" الذي أقرّه الكنيست (البرلمان) يومها، والذي يمنح اليهود دون غيرهم ما سمّي حقّ تقرير المصير، أي يجعل دولة الاحتلال لليهود فقط، تماماً كما فعل "داعش"، حين أعلن قيام الدولة الإسلامية في العراق والشام للمسلمين الذين يحدّدهم. ويُعدّ إقرار القانون تجسيداً للفكر السلفي اليهودي المستحضر لأساطير قامت عليها دولة الاحتلال في بداياتها. وإضافة إلى أن القرار يعزّز التفوق الديني وسياسة التمييز والفصل العنصري الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، فإنه يكرّس الهوية الدينية لدولة الاحتلال أيضاً، ويوحي أنها تقود حرباً دينية في المنطقة. وليست الهوية الدينية لدولة الاحتلال جديدة على الخطاب والممارسة الإسرائيليَّيْن، بل استخدم قادة الفكر الصهيوني منذ المؤتمر الصهيوني الأول في بازل في سويسرا، سنة 1897، مصطلحات دينية توراتية، وذلك لاجتذاب أكبر عدد من اليهود لفكرة إقامة وطن قومي يجمعهم، ويكون حكراً عليهم، خصوصاً بعدما فوجئ أحد مؤسّسي الصهيونية، تيودور هرتزل، بعدم رغبة أغنياء اليهود بدعم هذا المشروع.
ما توفّر من دلائل على اقتراف إسرائيل جرائم حرب وجرائم تطهير عرقي وجرائم إبادة جماعية، باتت من الكثرة والوضوح ما يجعلها في متناول يد كل من يريد التَنطُّع لمهمة توجيه الاتهام لها
في الحرب الإسرائيلية الجارية على قطاع غزّة لم يعد من يقود دولة الاحتلال حكومة من مدنيين، بل هو مجلس حربي يقرّر شؤون السلام والحرب، وهو ما كان عليه الأمر مع "داعش". ويقود هذا المجلس نتنياهو الذي أخذ ينحو بالحرب التي يخوضها لتحويلها إلى حربٍ دينية، عبر استعانته بالتوراة من أجل الضخ في عنصر الكراهية من منطلق ديني، وبالتالي، جعل الحرب ضد العرب واجباً عقدياً. وقد قال نتنياهو في خطابٍ، أواخر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي: "تقول لنا التوراة تذكروا ما فعل عماليق بكم، ونحن نتذكّر ذلك بالفعل ونقاتل". وإذا ما علمنا أن تذكُّر عماليق يعني بالضرورة تذكُّر وصايا التوراة التي توصي بقتل عماليق جميعاً؛ قتل الرجال والنساء والأطفال والرضع وقتل الثيران والغنم والجِمال والحمير وإتلاف أملاكهم، ومحاربتهم وإبادتهم حتى يفنوا فناءً تاماً، فهذا الأمر لا يذكرنا سوى بداعش. إذ إن داعش شنت حروبها جميعاً واقترفت جرائمها باسم الدين، واعتبرت من يخالفون معتقداتها وتفسيراتها للإسلام مرتدّين يجب قتلهم، كما يجب قتل الملل الأخرى.
وليس عبثاً أن نتنياهو جاء على ذِكر هذه الوصايا، فهو يريد من استحضار هذه المقولة الدينية عدم استثناء أحد أو شيء في حرب الإبادة التي يشنها على قطاع غزّة، وكلامه يؤيد تصنيف الحرب حرب إبادة جماعية. بل يريد من استحضار هذه المقولة تهديد العرب في الدول العربية، أو ربما يريد في مرحلة مقبلة شن حرب إبادة عليهم، لأن عماليق بحسب التاريخ هم قبيلة عربية حاربت اليهود قبل أكثر من 3000 سنة. ومن هنا يمكننا تذكُر دعوة وزير التراث الإسرائيلي إلى إبادة غزة بقنبلة نووية، لذلك يبدو أن الإبادة الجماعية والتامّة للفلسطينيين، وربما للعرب، باتت هدفاً إسرائيلياً مطروقاً، وقد لا يستثنى من الإبادة العرب المطبّعون أيضاً ما داموا مصنّفين عماليق.
بغضّ النظر عن أن دعوات نتنياهو ووزرائه تُعدّ تحريضاً على الإبادة الجماعية بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ويستحقّ مطلقوها أن يُقادوا للمثول أمام هذه المحكمة، إلا أن ما توفّر من دلائل على اقترافهم جرائم حرب وجرائم تطهير عرقي وجرائم إبادة جماعية، باتت من الكثرة والوضوح ما يجعلها في متناول يد كل من يريد التَنطُّع لمهمة توجيه الاتهام لهم، غير أن المهمة التاريخية الأهم التي تقع على عاتق الجميع تكمن في تعرية هذه الدولة من الرداء التي وضعته على جسدها لتخفي به عوراتها الكثيرة، ومنها حقيقتها دولة دينية لمن يعدون أنفسهم "شعب الله المختار" الذي يضع الآخرين في درجة أدنى. ولا يحتاج المختصّون والباحثون كثيراً لإثبات ذلك وإظهاره للمخدوعين بديمقراطيةٍ تَدَّعيها هذه الدولة.