إسرائيل تقترب من "لحظة جنوب أفريقيا"
صوّت الكنيست الإسرائيلي على منح الثقة لحكومة أكثر صهيونية وفاشية من سابقاتها، وتزامن ذلك مع اعتماد الجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة قرارا يذكّر إسرائيل بأنها ما زالت دولة احتلال غير شرعي، وأكبر منتهكة للقانون الدولي. بأغلبية 87 صوتا، قرّرت الجمعية العامة أن تتوّجه إلى محكمة العدل الدولية، لإصدار فتوى قانونية تفضح تحوّل إسرائيل التدريجي من دولة احتلال مؤقّت إلى استعمار استيطاني اجتثاثي دائم، أرست من خلاله نظام فصل عنصري (أبارتهايد)، تجاوز كلّ الحدود.
تعود الجمعية العامة إلى محكمة العدل الدولية، الجهاز القضائي الرئيس للأمم المتحدة، لتطلب رأياً استشارياً جديداً، بعد مرور 18 سنة على قرار المحكمة ضد جدار الفصل العنصري. تطلب الجمعية من المحكمة ذاتها اليوم أن تُصدر فتوى قانونية بشأن مسألتين: الآثار القانونية المترتبة على انتهاك إسرائيل المستمرّ حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وعن احتلالها طويل الأمد للأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 واستيطانها وضمهّا لها، وتحديد آثار سياسات إسرائيل وممارساتها على الوضع القانوني للاحتلال والآثار القانونية المترتبة على هذا الوضع بالنسبة لجميع الدول الأعضاء والأمم المتحدة ذاتها.
رغم نعت رئيس الحكومة الإسرائيلية، نتنياهو، القرار بـ"الحقير" وادعائه أنّه قرارٌ يشبه "مئات القرارات المشوهة" ضد إسرائيل، وأنّه كغيره لا يُلزم إسرائيل، فإنّ فتاوى محكمة العدل الدولية، وإن لم تكن مُلزمة، ستمدّ الفلسطينيين بسندٍ قانوني وازن، وبسلاح أخلاقي تستند إليه المقاومة بشقّيها، المسلّح والسلمي، وتمنح الدبلوماسية الفلسطينية أداة للدفاع عن حق الشعب الفلسطيني في التحرّر من الاستعمار الاستيطاني. ويكتسي هذا القرار (A/77/400) عدة دلالات يمكن تلخيص أهمها في النقاط التالية:
أولاً، تمرير هذا القرار يعني أنّ إسرائيل والدول الراعية لإرهابها قد فشلت في الضغط على دول عديدة من أجل الامتناع عن التصويت لصالحه، أو التغيب خلال التصويت، فقد بعث رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، يئير لبيد، رسائل إلى 50 زعيم دولة يقول فيها إنّ وضع "الأراضي المتنازع عليها" يجب أنّ يخضع لمفاوضاتٍ مباشرة بين إسرائيل والفلسطينيين، وإنّ "أي تغيير أحادي الجانب لمثل هذه السياسة ستكون له آثار على المنطقة بأكملها". ورغم أنه لم يجر الإفصاح عن لائحة هؤلاء الخمسين، إلاّ أن من الأرجح أنها قد تضمنّت زعماء دول عربية، خصوصاً المطبِّعين منهم. وقد بعث تصويت الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، باستثناء جمهورية جزر القمر الاتحادية، وتصويت عدد كبير من منظمة التعاون الإسلامي، يبعث رسالة مزعجة إلى إسرائيل وحلفائها، مفادها أنّ تطبيع الحكومات العربية والإسلامية لا يعني بالضرورة الانقلاب على قضية فلسطين، خصوصا بعد أن عبّرت الشعوب العربية عن تمسكها بفلسطين خلال مونديال قطر. تصويت الدول العربية اليوم لصالح هذا القرار يضعها، في الوقت ذاته، أمام امتحان عسير تجاه مدى التزامها بالفتوى التي ستُصدرها المحكمة بشأن الآثار القانونية المترتبة على جميع الدول الأعضاء التي تنتهك القانون الدولي بشراكاتها مع إسرائيل.
بدأ الخناق يضيق على إسرائيل، وأصبحت محاصرتها بالقانون الدولي تزيد شيئاً فشيئاً
ثانياً، أكّد القرار ضرورة تجاوز مجلس الأمن المشلول والمنقسم على نفسه بين الصّين وروسيا اللتين صوّتتا لصالح القرار، في حين عارضته أميركا وبريطانيا، راعيتا المشروع الصهيوني، وامتنعت عن التصويت فرنسا الحربائية. وجاء هذا القرار بناءً على ما جاء في تقرير اللجنة الرابعة للجمعية العامة المعنية بإنهاء الاستعمار، وهذا يعني أن الجمعية العامة ولجانها تشكّل الإطار الأنسب لخوض حملة دولية من أجل تصفية الاستعمار الإسرائيلي المُلازم لنظام الأبارتهايد. ويستوجب هذا النضال، في شقّه الدبلوماسي، الضغط على مزيد من الدول التي تتمتع بعضوية في منظمة التعاون الإسلامي، وحركة عدم الانحياز، وتنشيط "اللجنة الوزارية الخاصة بفلسطين" التابعة للأخيرة، لتمرير قراراتٍ عبر الجمعية العامة تسمح بعزل إسرائيل دولياً، مثلما فعل المجتمع الدولي مع نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا.
ثالثاً: تكمن قوة القرار في أنه يعود بالقضية الفلسطينية إلى جذورها، إلى لا شرعية الاحتلال الإسرائيلي، وإلى خرقه القانون الدولي الذي يحظر على المُحتل اكتساب سيادة على الأراضي المحتلة، ويحظر عمليات النقل الجماعية أو الفردية للسكان من الأرض المحتلة أو داخلها، وينصّ على أنّ الاحتلال ليس إلّا حالة مؤقتة" ويُلزم دولة الاحتلال بإدارة الأرض مؤقتاً، بحسن نية، وبما يخدم مصالح السكان المحتلين. والرأي الاستشاري الذي ستصدره المحكمة مُجبرٌ على أن يراعي قواعد القانون الدولي ومبادئه، بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة، والقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان وقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة ومجلس حقوق الإنسان وفتوى المحكمة ذاتها لا شرعية جدار الفصل، وبذلك يُتوقع أن ينسف سردية "الأراضي المتنازع عليها" جملة وتفصيلاً، ليُعيدها إلى جرائم الاحتلال اللا شرعي لكلّ الأراضي التي استولت عليها إسرائيل، وضمّتها بالقوة واستوطنتها بعد 1967.
رابعاً: يجب أن يُنظر إلى قرار الجمعية العامة في سياق الشكاوى المرفوعة ضد إسرائيل أمام مؤسسات العدالة الدولية وداخل الأمم المتحدة، بما في ذلك الشكوى التي رفعتها فلسطين في عام 2018، وقبِلتها السنة الماضية لجنة القضاء على التمييز العنصري التابعة للأمم المتحدة (CERD)، وهي اللجنة المعنية برصد تنفيذ اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري من الدول الأطراف فيها. وقد تشكلت في مطلع 2022 "لجنة مصالحة" لمراجعة المعلومات والأدلة وإعداد نتائج وتوصيات من أجل "الحل الودي للنزاع". وتُواجه إسرائيل شكاوى أخرى أمام المحكمة الجنائية الدولية التي أعلنت عن فتح تحقيق منذ حوالي سنة، وما زال المدّعي العام، كريم خان، يماطل ويشجّع إسرائيل، بصمته المدوّي، تجاه جرائمها. بل إن الراعي الرسمي لجرائم إسرائيل، أميركا ذاتها، تواجِه دعوى قانونية رفعتها ضدّها فلسطين في عام 2018 جرّاء نقل سفارتها لدى إسرائيل إلى القدس المحتلة في انتهاك لاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961، وما زالت القضية قيد النظر، إذ لم تحسم المحكمة بعد في قبول الدعوى، نظرا لاعتراض أميركا على اختصاص المحكمة.
استغرق نضال أحرار جنوب أفريقيا أزيد من نصف قرن، وواجهوا بطء أجهزة الأمم المتحدة، وتماطلها وانقساماتها بثبات حتى حشدوا دعم جلّ الدول
خامساً، تسارع وتيرة الشكاوى وتقارير الأمم المتحدة وقراراتها، بالموازاة مع استفحال جرائم الاستعمار الإسرائيلي، يذكّرنا بمسار مشروع القضاء على نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا الذي تصدّر جدول أعمال الأمم المتحدة منذ إنشائها، ففي 22 يونيو/ حزيران 1946، طلبت الحكومة الهندية إدراج المعاملة التمييزية للهنود في اتحاد جنوب أفريقيا على جدول أعمال الدورة الأولى للجمعية العامة، ثم توالت قرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن، وفرضت على حكومة جنوب أفريقيا حظر توريد الأسلحة، ومقاطعة نظامها في مجالاتٍ عديدة، ما أجبر نظام الأبارتهايد في بداية التسعينيات على الامتثال لنضال الشعب الأصلي بقيادة نلسون مانديلا. ولكن، على عكس الأسطورة السائدة، خاض مانديلا مقاومة مسلّحة، بعد اقتناعه بعدم جدوى حركة اللّاعنف في مواجهة جرائم الأبارتهايد، ووقف وراء سلسلة من الاغتيالات والتفجيرات، قادته إلى السجن عام 1962، وحتى عام 2008، كان مدرجا على قائمة "الإرهاب" الأميركية.
استغرق نضال أحرار جنوب أفريقيا أزيد من نصف قرن، وواجهوا بطء أجهزة الأمم المتحدة، وتماطلها وانقساماتها بثبات حتى حشدوا دعم جلّ دول العالم، وعزلوا نظام الأبارتهايد، ثم قضوا عليه. وبينما لعبت جلّ أجهزة الأمم المتحدة دورا هامّا في هذا النضال، يعود الفضل بالأساس إلى "اللجنة الخاصة لمناهضة الفصل العنصري"، التي منذ أول اجتماع لها في ربيع 1960، ستلعب دور المحرّك الرئيس لحملة الأمم المتحدة من أجل القضاء على نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا. ومن دواعي التفاؤل أنّ فلسطين تعمل حالياً، بدعم من حكومتي جنوب أفريقيا وناميبيا، على تفعيل "اللجنة الخاصة لمناهضة الفصل العنصري"، وإخراجها من الغيبوبة التي دخلت فيها منذ 1994، منذ شطبت الجمعية العامة ومجلس الأمن بند الفصل العنصري من جدول أعمالهما.
كثيرة هي المؤشّرات التي تدلّ على أنّ فلسطين تسير على خطى جنوب أفريقيا، وتساعدها في ذلك عودة نتنياهو إلى الحكم، فتبنّي حكومته سياسة الضمّ بشكل رسمي، وعزمها على تطوير الاستيطان اللاشرعي في جميع أنحاء ما تسمّيها "أرض إسرائيل" في الجليل والنقب والجولان والضفة الغربية يقرّبها من "لحظة 1948"؛ اللحظة التي تبنّت فيها حكومة جنوب أفريقيا رسميا نظام الأبارتهايد، ودفعت شعوب العالم إلى الوقوف في وجهها. اليوم، رغم دعم أميركا وبريطانيا وألمانيا وكندا، بدأ الخناق يضيق على إسرائيل، وأصبحت محاصرتها بالقانون الدولي تزيد شيئا فشيئا، وبات كل اعتداءٍ من اعتداءاتها تقابله المقاومة الفلسطينية الشعبية بتصعيدٍ لكفاحها المسلّح. استمرار المقاومة الفلسطينية المشروع الصهيوني أزيد من قرن دليل قاطع على أن هذا الشعب غير قابل للاستسلام والانكسار.