إسرائيل أكثر انقساماً
على الرغم من الشعار الفضفاض الذي رفعته إسرائيل لحربها على غزّة "معاً ننتصر"، فإن هذا الانطباع بالوحدة المزعومة بدأ يتبدّد، وبرزت أكثر فأكثر التصدّعات التي تسبّبت بها هذه الحرب بين الإسرائيليين.
تبرز هذه التصدّعات على أكثر من مستوى، بدءاً من العقيدة العسكرية الإسرائيلية التي تبدو اليوم بحاجة إلى إعادة تقييم في ضوء الاخفاق الاستخباري والعسكري الهائل في مواجهة هجوم حركة حماس في 7 أكتوبر. هذه العقيدة التي تقوم على أربع ركائز أساسية، الردع والإنذار والدفاع والهجوم، تزعزت بصورة كبيرة، عندما تبيّن أن قدرة الردع الإسرائيلية لم تردع "حماس" عن شنّ هجومها، كما برز الفشل الذريع في الإنذار المبكّر من الهجوم، ناهيك عن حالة الإرباك التي سادت وسط الجيش الإسرائيلي في الساعات الأولى للهجوم. ومهما كانت مسؤولية القيادة الأمنية والسياسية عن هذا الإخفاق، فهذا وحدَه لا يبرّر ما حدث، وفي إسرائيل، هناك من يعتقد بضرورة إعادة فحص العقيدة العسكرية الإسرائيلية ومدى ملاءمتها لمواجهة تحدّيات أمنية مباشرة، مثل هجوم 7 أكتوبر المفاجئ.
انتقادات كثيرة لأداء نتنياهو في إدارة هذه الحرب، وتشكيك في أنه يسعى إلى إطالة الحرب خدمة لأهدافٍ سياسيةٍ خاصة
على الصعيد الحكومي، خلّف هجوم "حماس" على مستوطنات غلاف غزّة شعوراً من عدم الثقة وسط الإسرائيليين بحكومتهم التي يرونها فشلت في حمايتهم وفي المحافظة على أمنهم. ومن يتابع ما ينشر في إسرائيل يلاحظ أن الانتقادات الموجهة إلى أداء حكومة نتنياهو ليست حصراً بالمعارضة الإسرائيلية له، بل تشمل كل الاتجاهات السياسية. وعلى الرغم من وجود تأييد أغلبية في إسرائيل مع استمرار الحرب حتى تحقيق هدفيها (القضاء على "حماس" عسكريا وعلى سيطرتها المدنية وإعادة المخطوفين)، هناك انتقادات كثيرة لأداء نتنياهو في إدارة هذه الحرب، وتشكيك في أنه يسعى إلى إطالة الحرب خدمة لأهدافٍ سياسيةٍ خاصة، والانعكاس السلبي على الناس جرّاء عدم وجود تفاهم بين الأعضاء البارزين في مجلس الحرب، كما برز في زيارة الوزير بني غانتس إلى الولايات المتحدة وبريطانيا والطلب من السفارة الإسرائيلية في البلدين عدم التعاون معه. دفعت هذه الخلافات بين السياسيين قائد الفرقة 98 العميد دان غولدفوس إلى مطالبة المسؤولين السياسيين بوضع خلافاتهم جانباً، والوقوف إلى جانب المقاتلين، الأمر الذي شكّل سابقة ودليلاً على مدى تأثير الخلافات السياسية داخل مجلس الحرب في الجنود الإسرائيليين. باختصار، أظهرت حرب غزّة، بوضوح أكبر، مشكلة أن بنيامين نتنياهو رئيساً للحكومة لا يتورّع عن استخدام كل الوسائل الممكنة والأكاذيب من أجل البقاء في منصبه. كما أن هذه الحرب زادت من الأصوات المطالبة بإجراء انتخابات جديدة مبكّرة لتغيير الزعامة السياسية الحالية.
على الصعيد الشعبي؛ قسّمت مشكلة الأسرى الإسرائيليين الذين في حيازة "حماس" الإسرائيليين بين من يطالب الحكومة بالموافقة على وقف إطلاق للنار مقابل استعادتهم ومن يرفض رفضاً قاطعاً أي وقف للقتال قبل تحقيق هدف الحرب، حتى لو كان معنى ذلك التضحية بالأسرى. ويجب الاعتراف بأن الخطاب التعبوي التحريضي السائد اليوم في إسرائيل والرغبة الانتقامية المخيفة، وعدم اللامباة الهائلة للجمهور الإسرائيلي بمأساة الشعب في غزّة، والخوف الوهمي من خطر إبادة جديدة يتعرّض له اليهود، ذلك كله وغيره حدّ من قدرة حركة المطالبة باستعادة المخطوفين على أن تتحوّل إلى حركة معادية للحرب، كما حدث مثلاً لحركة الاحتجاج الإسرائيلي على الغزو الإسرائيلي لبنان في 1982، وحركة الأمهات الأربع التي كانت في أساس المطالبة بانسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان في عام 2000.
خرجت تظاهرات حاشدة تطالب بضرورة تجنيد المتدينين، لا سيما في ضوء الحرب المستمرّة منذ نحو ستة أشهر
مشكلة أخرى قديمة جديدة أيقظتها حرب غزّة، هي الخلاف الداخلي بشأن إعفاء طلاب المدارس الدينية المتشدّدة من الخدمة الإلزامية في الجيش الإسرائيلي، وعدم المساواة بين جمهور المتدينيين وجمهور العلمانيين في تحمل العبء وفي المشاركة في المجهود الحربي. وما إن أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي، غالانت، عن نية إصدار قانون يفرض الخدمة العسكرية على طلاب المدارس الدينية، حتى خرج المتدينون في تظاهرات رافضة للقرار، ووصل الأمر إلى تهديد الحاخام الأكبر لليهود الشرقيين بأنه إذا ألغت الحكومة إعفاء هؤلاء من الخدمة، وفرضت عليهم الخدمة العسكرية الإلزامية، فإنه سيطلب من أتباعه مغادرة إسرائيل. في المقابل، خرجت تظاهرات حاشدة تطالب بضرورة تجنيد المتدينين، لا سيما في ضوء الحرب المستمرّة منذ نحو ستة أشهر، وكيف يمكن أن يبقى جمهور كامل من المتدينيين يعيشون في داخل فقّاعة خاصة بهم، كأنه لا توجد حرب.
هذا بعض ما أحدثته حرب غزّة من انقسامات وتصدّعات في إسرائيل في المدى المباشر، لكن هذه الحرب سيكون لها تأثيرها بعيد الأمد، بوصفها الحرب التي زعزعت الركائز التي اعتمدت عليها دولة إسرائيل منذ قيامها، وأعادت إحياء الانقسامات والتصدّعات القديمة والجديدة، وأثارت الشكوك العميقة في قوّة إسرائيل ومناعتها.