إرهابي أم تراثي؟
لماذا ذبح الشاب الفرنسي عبد الله أنزوروف معلّم التاريخ؟ لماذا اختار القتل ليكون ردّا على سخرية المعلم من النبي محمد (ص)؟ لماذا لم يردّ السخرية بالسخرية، كما كان النبي يردّ القصيدة بالقصيدة؟ لماذا لم يحوّل ما حدث إلى حملة تنديد بالعنصرية ضد المسلمين ويحصد التعاطف والاعتذارات؟ لماذا اختار أن يضيّع حقه، ويسيء إلى نفسه ودينه ومعتنقي الإسلام؟
كانت واقعة ذبح المدرس الفرنسي على يد شاب فرنسي، من أصل شيشاني، فرصة متجدّدة للأطراف كافة. زعم الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، قبلها بأيام، أن الإسلام في أزمة، وأن المسلمين، في بلاده، انفصاليون وانعزاليون وخطر على قيم الجمهورية. تصدّى له المسلمون وشيوخهم ومؤسساتهم، هاجموه وكذبوه، فجاء الشاب الجهادي ليصدّق على كلامه، ويزيده من العزل ذبحا، ويرفع أسهمه بعد انحطاطها، الأمر الذي حاولت خطاباتٌ إسلاميةٌ تبريره بأنه، طبعا، مؤامرة.
اعتذرت المؤسسات الإسلامية الرسمية عن الحادث، واعتبرته مخالفا للإسلام، واستنكرت القتل، وأصدرت بياناتٍ، وتغريداتٍ، لم تخل من تبرير، فالقتل حرام، وغلط، وعيب، ولكن القاتل معذور، لأن المقتول استفزّه، والقاتل معذورٌ لأن المقتول سخر من النبي، والقاتل معذورٌ لأنه مضطهد، فيما جاءت تعليقات إسلامية، "أخرى"، بعضُها لمتخصصين في العلوم الشرعية، لتنتصر للقاتل بشكل واضح، وتدعمه بشكل واضح، وتؤيده بشكل واضح، وترى أنه نفّذ حد الله في المقتول، وأن السخرية من النبي حدّها القتل!
تبدو التعليقات، في ظاهرها، مختلفة، إلا أنه اختلافٌ في الدرجة، لا في النوع، فالتعليقات في مجملها تنحاز إلى القاتل وجريمته، بنسبٍ مختلفة. وهذا لا يعني أن أحدا، رسميا، لم يستنكر، بشكل حقيقي. بالعكس، الاستنكارات الحقيقية أقوى، كما وكيفا، من غيرها، إلا أن تأثير الاستنكار الزائف، وقت حدوث الجريمة، أكبر، ناهيك عن التأييد الواضح والفج و"المشرعن" لجريمة الذبح!
تطرح الجريمة وتبريراتها وتأييدها ورفضها، من جديد، سؤال التراث وإشكاليته، فالتبرير للقاتل تراثي، والتأييد للقاتل تراثي، والتجريم للقاتل تراثي، والقاتل نفسه تراثي، أدلة الإدانة من التراث، وأدلة البراءة من التراث، فالتراث يحيي ويميت، وهو على كل شيء دليل، حسب قارئه ومزاجه!
بدأ الاهتمام بسؤال التراث منذ بواكير عصر النهضة، في نهايات القرن التاسع عشر، ودفع إليه الاحتكاك العنيف بالغرب، الاستعماري، والمتفوق علميا وحضاريا، فالآخر هو الذي ينتج وعي الذات بنفسها، كما نبه عبد الله العروي. ولذلك كانت أسئلة الآخر سببا للبحث عن الإجابات داخل الذات. نحن أمة مثقلة بماضيها، واقعنا عاطل بالوراثة، ليس لنا إلا ما تركه السابقون لنا. والمراقب لسؤال التراث وتحولاته في الفكر العربي الحديث يلحظ أن أطراف المعركة، جميعهم، أبناء التراث، استلهموه واستخدموه. يستوي في ذلك محمد عبده وفرح أنطون. أحدهما استلهم تراث العقلانية، ومناهج المتكلمين، والآخر لم يبعد كثيرا واستلهم ابن رشد. وذلك قبل أن يتحوّل سؤال التراث إلى إشكالية، في النصف الثاني من القرن العشرين، على أيدي طه حسين وجيله ورفاقه وخصومه، على السواء، ثم إلى أزمة حقيقية، على يد السلفية العدمية، ناهيك عن التنويريين الحكوميين.
يمتلك المسلمون تراثا واسعا، باتساع الأزمنة والأمكنة التي مرّ عليها، ومختلفا، باختلاف الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أنتجته. من هنا، يمكنك أن تجد في التراث الشيء وضده، الرأي وضده، الإجابة وضدها. الذين استشهدوا بحرمة قتل المدرس الفرنسي استخدموا، مع القرآن والسنة، التراث. والذين أيدوا القتل وباركوه واعتبروه حدا شرعيا استخدموا، من دون القرآن والسنة، التراث، وآراءه، وإجاباته عن أسئلة عصره، لا عصرنا، وإجماعاته المتخيلة.
المشكل هنا ليست في التراث، كما يدّعي خطاب الاستسهال التنويري، إنما في قرّائه الذين حوّلوه إلى مصدر للمعرفة، فيما هو حلقة من حلقاتها، وجزء من تاريخها. والمعوّل عليه لقراءة التراث والاستفادة منه هو فهم الواقع. ولذلك القاتل ليس تراثيا، كما يزعم مؤيدوه ومعارضوه على السواء، بل هو ابن أبناء زمانه الإسلامي "الواقع". نعيب تراثنا والعيب فينا، وما لتراثنا، مع المبالغة الشعرية، عيب سوانا.