إرث ترامب
حتى اللحظة لا تسير الأمور لصالح دونالد ترامب وخططه للفوز بولاية رئاسية ثانية في انتخابات 3 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. استطلاعات الرأي على وجه التحديد تقول بعكس رغبته. لا يمكن الوثوق بهذه الاستطلاعات بالمطلق، عقب تجربة 2016، وبعدما أخطأت في أكثر من بلد. وتزداد مخاطر الاعتماد على الاستطلاعات نظراً إلى طبيعة النظام الانتخابي الأميركي المعقد، أخذاً بالاعتبار أن المجمع الانتخابي من يحسم هوية الفائز لا التصويت الشعبي. لكنها على الأقل تعطي مؤشّرات يمكن الانطلاق منها حول نوايا التصويت. وعلى الأرجح، إن تم فوز المرشح الديمقراطي جو بايدن، فلن يحصل بسبب الاقتناع به، بقدر ما سيكون نتيجة كره ترامب، وعدم الرغبة برؤيته مجدّداً في البيت الأبيض.
صحيح أن الرئيس الأميركي راكم، على مدى سنوات ولايته الأربع، مناصرين كثيرين. ويُمكن التمعن في قراءة التعليقات على حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي، تويتر وفيسبوك، لاستخلاص هوية من يجذبهم هذا الرئيس من مؤيدي اقتناء السلاح، إلى المحافظين المتدينين، إلى أصحاب نظرية المؤامرة، فهو يمثل كل واحد من هؤلاء، ولو جزئياً، وجعل من أفكارهم أكثر علانية وتمثيلاً بعدما ردّدها من داخل البيت الأبيض. ولكن ترامب نفسه تخصّص في صناعة الأعداء في الداخل، كما على المستوى الدولي. انفجرت خلال ولايته الأزمات، الواحدة تلو الأخرى، من العنصرية إلى الركود الاقتصادي، وحتى العجز عن إدارة أزمة تفشّي كورونا. ويضاف إلى ذلك كله فضائحه التي توالت، لتصل إلى محاولة عزله التي نجا منها.
وإذا كان من السهل على ترامب إلقاء اللوم على "الدولة العميقة" لتبرير فشله، فإن أعذاره هذه مجرّد هراء بالنسبة لمعارضيه. أما علماء النفس والخبراء فيقدّمون قراءاتٍ أكثر عمقاً لأسلوب إدارته. يذهبون إلى الحديث عن عقد نقص، حسد، رهاب الضعف، فضلاً عن نزوعه إلى الاستبداد. .. وأياً يكن ما يفسّر نهج ترامب، إن أمكن تسميته نهجا، فإن العبرة تبقى في نتائجه وما حققه.
بالنسبة إلى الداخل، يبقى الموضوع حمّال أوجه واختلاف بين معارضيه ومؤيديه. أما خارجياً فالأمور أكثر جلاء، فهو التاجر المبتزّ الذي لا يمانع البلطجة في السياسة الدولية على قاعدة افعلوا ما أريد وادفعوا الثمن وإلا، تماماً مثلما هو مقتنص الصفقات، يجيد تحقيق ما يريده بغض النظر عن الكيفية، ولعل علاقته بالدولة العربية الأكثر تجسيداً لهذا المسار الذي سلكه. من المؤكد أن ترامب لم يكن ليحقق أهدافه لولا رضوخ الحكام له. في جعبته كثير من أوراق الضغط والابتزاز التي يجيد توظيفها للضغط ونيل مبتغاه. الحماية مقابل المليارات (السعودية نموذجاً)، رفع العقوبات مقابل أثمان اقتصادية وأخرى سياسية قادمة (الحالة السودانية). أما القضية الفلسطينية فتبقى الضحية الأبرز لولاية ترامب.
لم يكتف ترامب بمحاولة تصفية القضية الفلسطينية، وشطب قضايا الحل النهائي، من خلال مساعيه التي لم تتوقف لفرض "صفقة القرن"، والتواطؤ مع إسرائيل لفرض الجزء الأكبر منها على أرض الواقع. اختار ترامب، قبيل وقت قصير من انتهاء ولايته الأولى، تجيير كل التطبيع خلف الأبواب المغلقة بين الاحتلال وعدد من الدول العربية لصالحه. سرّع من خروج هذه العلاقات إلى العلن، وتحت رعايته، في التوقيت الذي اختاره. وهو أمر لا يمكن الاستهانة به.
وبغض النظر عما إذا كانت كل أنواع البلطجة هذه ستساهم في إعادة انتخابه أو سقوطه، فإن المهم هو كيفية التعامل مع إرث ترامب في السياستين، الداخلية والخارجية، إذ سيكون من الصعب التخلص منه، لأن العودة إلى الوراء في عدد من القضايا، ومنها التطبيع، صعبة التحقق.