إبادة على الهواء مباشرة
عنصران، أو بالأحرى كذبتان، روّجتهما إسرائيل منذ اليوم الأوّل لعملية السابع من أكتوبر، في إطار حملتها السياسية لحشد الدعم الدولي لشنّ حرب إبادةٍ على قطاع غزّة. وهدفت من ورائهما إلى تقديم حربها حربًا على الإرهاب. تمثل العنصر الأوّل في استحضار تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وصورته المترسّخة في الأذهان بقطع الرؤوس وقتل الأطفال والنساء. وفي محاولتها دعشنة "حماس"، قصّت إسرائيل على العالم رواية تقول إنّ عناصر الحركة قطعوا الرؤوس وقتلوا الأطفال والنساء. كبّلوا أيديهم وأعدموهم. نحن الذين نسمع الرواية تحضُر في أذهاننا فورًا صورٌ لمذابح دير ياسين والطنطورة وكفر قاسم وتل الزعتر وصبرا وشاتيلا؛ تلك التي رأيناها في المجلّدات السميكة على رفوف المكاتب. ردّد نتنياهو الرواية وهو واقفٌ إلى جانب وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، مضيفًا إليها أنّ عناصر "حماس" اغتصبوا النساء. لعلّه خطأٌ في الترجمة، للنفاق حدودٌ. لا، هو واثق. نعود بالفيديو إلى الوراء قليلًا للتأكّد مما قاله. قطعوا الرؤوس وكبّلوا الأيادي وأعدموا المدنيين وقتلوا الأطفال واغتصبوا النساء، هكذا قال بالحرف.
دعشنة "حماس" كذبة يمكن أن تنطلي على روّاد "السوشيال ميديا"، ويمكن أيضًا توقّعها من قادة الاحتلال. ولن نفاجأ إذا حاول صحافيٌ ساذجٌ استغلالها على قناة أميركية لأغراض الإثارة ورفع أرقام المشاهدات، فيقول، وهو في وضعية محارب أمام الكاميرا، مع كلّ مؤثرات التمثيل، إنّه شاهد رؤوسًا مقطوعة في كلّ مكان. يا أخي، قد نتفهّم أيضًا أن تروي الكذبة جندية إسرائيلية مصدومة من العملية قبل أن تتراجع عن أقوالها. لكن أن يصدّقها ويردّدها رئيس دولة كبيرة، كالرئيس الأميركي، جو بايدن؛ فذلك غباء، وبمثابة منح ضوء أخضر لإبادة أهل غزّة... الرئيس الأميركي رجل التاريخ والقانون، يعرف جيدًا أنّ حركة حماس ليست "داعش". ليست تنظيمًا طارئًا متعدّد الجنسيات بلا أرضٍ أو هوية، أُخرج قادته على غفلة من السجون.
"حماس" ابنة فلسطين. نشأت حركة مقاومة من رحم شعب له أرض مسلوبة وقضية
تمثّل العنصر الثاني في "البروباغندا" الإسرائيلية في وصف عملية "حماس" بأنّها "اعتداءات 11 سبتمبر الإسرائيلي"، في محاولة من إسرائيل لتقديم نفسها أمام العالم الحرّ ضحية عمل إرهابي، وعليهم بالتالي أن يصطفّوا إلى جانبها ويدعموها في الدفاع عن نفسها.
"حماس" ابنة فلسطين. نشأت حركة مقاومة من رحم شعب له أرض مسلوبة وقضية. تقاوم بأساليبها، اتفقت معها أو اختلفت؛ وهي في حالة حربٍ مفتوحةٍ مع محتلّ. وأبناؤها الذين طاروا فوق جدار الحصار حطّوا على أرض أجدادهم. لم يخطفوا طائرات مدنية ويهاجموا بها أبراجًا تجارية على أرضٍ غير أرضهم. هي حربٌ، وطالما أنّ القضية لم تُحلّ؛ وطالما أنّ هناك محتلاً، سيبقى هناك مقاومٌ للاحتلال. نقطة انتهى، سيّد بايدن.
ليس استحضار إسرائيل "داعش" و"القاعدة" مفاجئًا ولا هو جديد، ولا تفاجئنا وحشية الردّ الإسرائيلي. لكنّ الجديد في هذا العدوان، إضافة إلى عملية "حماس" غير المسبوقة في كلّ شيء فيها؛ هو هذا الحشد الدولي الواسع المبايع لردّ إسرائيل. هذه الدول التي تعرف جيدًا قدرات إسرائيل العسكرية وهمجيّتها في العدوان، وانتهاكها القوانين وبرودتها في ارتكاب جرائم الحرب. كيف تبايع وحشًا لاستباحة غزّة؟
حصارٌ مُطبق على مليوني بشريّ. أمرٌ عسكريٌ بتهجير مليون فلسطيني، مع مهلة زمنية قبل تنفيذ الجريمة
ما يجري حالياً هو حرب إبادة، وبرعاية دولية، تستهدف أكثر من مليوني فلسطيني يعيشون على بقعة صغيرة لا تتجاوز مساحتها 360 كيلومتراً مربعاً، بينما نحن متسمّرون على الشاشات بعيدًا نشاهد المباني وهي تنهار على رؤوس ساكنيها فتدفنهم أحياء. عائلات بكامل أفرادها تُباد، ومجازر بالجملة لم نعد قادرين على إحصائها. هنا مُسعفٌ يبكي زميله الذي استُهدف في أثناء عمليات الإنقاذ، ظنّ أنّ آلة القتل العشوائي لن تطاولهم. وهناك امرأة تفقد عقلها وقد قُتل كلّ أطفالها قبل أن يتناولوا عشاءهم الأخير.
استهدافٌ لصحافيين واغتيالهم على الهواء مباشرة. القصف مباشر، والصراخ وطلب النجدة على الهواء. سنستمع إلى أنفاسهم الأخيرة ثمّ نعلنهم خبرًا عاجلًا، سنبحث عن اسم الصحافي الشهيد، هل نعرفه؟ مستوطنٌ يحمل سلاحًا ويهاجم فلسطينيًا أعزل، والبثّ مباشر. ها هو يُطلق النار. صوت الرصاصة يُحدث رنينًا مزعجًا، لماذا لا يتوقّف؟ حصارٌ مُطبق على مليوني بشريّ. أمرٌ عسكريٌ بتهجير مليون فلسطيني، مع مهلة زمنية قبل تنفيذ الجريمة. الرحيل أو الإبادة. وكأنّنا عدنا إلى عام 1948. نستمع لإسرائيلي يسمّي نفسه باحثًا، يقول فليرحل مليون غزّي إلى مصر، فلتستضفهم مصر مؤقتًا، وسيعودون. تمامًا كما عاد أهل الأرض إلى قاقون والزيب والسنديانة ودير محيسن وعتليت والحدثة وقيسارية ولوبيا والطنطورة وسيرين ومسكة وفراضية وميعار ومعلول وسحماتا وخربة جدين، وغيرها من القرى التي هُجّر سكّانها الأصليون. تمامًا، كما عادت فلسطين.