أي فرص لنجاح لولا دا سيلفا مجدّداً؟

08 نوفمبر 2022
+ الخط -

كسب زعيم حزب العمّال، لويس لولا دا سيلفا، رئاسيات البرازيل، في جولة الإعادة، يوم 30 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، ضد الرئيس المنتهية ولايته جايير بولسونارو؛ مرشّح الحزب الليبرالي الديمقراطي اليميني الشعبوي، بفارق ضئيل بينهما؛ 50,9% مقابل 49,1%، خلافاً لتوقعاتٍ تحدّثت عن حسم ممثل التحالف اليساري النتيجة لصالحه منذ الدور الأول. 
يعود اليسار إلى الحكم في البرازيل، مطلع العام المقبل، بعد سبع سنوات من الغياب أو التغييب، عقب إقصاء قانوني وشعبي؛ تمثّل في عزل البرلمان ذي الأغلبية اليمينية، الرئيسة ديلما روسيف أواخر عام 2016، ومنع دا سيلفا من الترشّح للانتخابات (2018) بسبب إدانته وسجنه. لتنطلق بذلك الولاية الثالثة للسياسي الأكثر شعبية في العالم، بحسب الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، الذي نال في منتدى دافوس لقب "رجل الدولة العالمي".
تعاطى كثيرون مع فوز دا سيلفا بالتركيز على الجانب الشخصي، فمشوار الرجل أشبه بأسطورة طائر الفينيق، بعدما نجح في النهوض سياسياً من الرماد، في عملية أقرب إلى المعجزة، ضد مساعي خصومه السياسيين الراغبين في دفنه حياً، بعد مغادرته قصر بلاناوتو الرئاسي، كما وصف ذلك في خطاب النصر "حاولوا دفني حياً، لكني هنا الآن". من دون إيلاء ما يكفي من العناية للمعطيات والجوانب الموضوعية التي رافقت فوز الرجل، خصوصاً ما يتعلق بما بعد العودة السياسية؛ أي المخاطر والتحدّيات المحدقة بالبلد، فالبرازيل اليوم غير تلك التي تركها، عام 2010، عند مغادرة الرئاسة.

الهشاشة والفتوّة التي تطبع النظام الديمقراطي في البرازيل تثير مخاوف لدى خبراء ومراقبين

تُعد نتيجة النزال الانتخابي أول مؤشّرات التغيير، فمن توقعات مؤسّسات استطلاع الرأي التي تُبشر بفوز كاسح لمرشّح اليسار بأكثر من 14 نقطة، إلى منافسة حادّة بين الطرفين في الجولة الثانية، تقلّص فيها فارق الأصوات بينهما إلى 1,8%، بعدما كان عند حدود 5,2% في الدور الأول (48,4% مقابل 43,2%). تكشف هذه الأرقام، بوضوح لا غبار عليه، حجم الانقسام السياسي في البرازيل، بعد تسجيل هذه المحطّة الانتخابية أقلّ فارق بين المرشّحين، في التاريخ الانتخابي للبلد. كما أنها الدليل القاطع على تغلغل اليمين الشعبوي في أوساط المجتمع البرازيلي، ففوز اليسار اليوم كان بمشقّة الأنفس؛ بأقل من نقطتين، بعدما بلغت شعبية دا سيلفا أواخر ولايته الثانية حدود 87%، إلى درجة أن أصواتاً تعالت حينها للمطالبة بتغيير الدستور، قصد إعادة انتخابه لولاية ثالثة.
شرخ مجتمعي عميق، شبيه بما تشهده الولايات المتحدة حالياً، مع فارق جوهري وحيد مرتبط بمدى تجذّر واستحكام قيم الديمقراطية؛ فالبرازيل لم تودّع الحكم الديكتاتوري حتى عام 1985. الهشاشة والفتوّة التي تطبع النظام الديمقراطي في البرازيل تثير مخاوف، لدى عدد من الخبراء والمراقبين، من الدفع بالبلاد نحو شفا حربٍ أهلية سياسية، من شأنها أن تمنح الفرصة للمؤسسة العسكرية للتدخل في العملية السياسية. لا سيما أن معطيات الجغرافيا السياسية مساعدة على ذلك؛ فمنطقة أميركا اللاتينية لم تكن يسارية مثلما هي الآن (المكسيك، فنزويلا، الأرجنتين، كولومبيا، تشيلي، بوليفيا، البيرو، البرازيل)، ناهيك عن الوضع العالمي المتموّج، حيث تشكّل خريطة تحالفات جديدة بسبب الحرب الروسية الأوكرانية.

اعتمد دا سيلفا في حكمه براغماتية قاسية سعت نحو تحقيق نهضة الجميع، ونجح في صناعة معجزة البرازيل

قضى دا سيلفا ثماني سنوات في رئاسة البرازيل (2003 حتى 2011)، حوّلته من "مناضل محرّض" إلى "موفق ممتاز"، بعدما استبعد من معجمه الشعارات الإيديولوجية لليسار، وعمل على صياغة نفسه بتهذيب شعره، وارتداء البدلات الرسمية، حتى استحقّ في الأوساط الإعلامية البرازيلية وصف "الرئيس التنفيذي المؤثر في الناس، وصديق الطبقة الوسطى، والقدوة لديمقراطية السوق القائمة على القواعد". واعتمد في حكمه براغماتية قاسية سعت نحو تحقيق نهضة الجميع، ونجح في صناعة معجزة البرازيل، بتحقيق نتائج باهرة، تمثّلت في تسجيل متوسّط معدّل نمو للناتج المحلي الإجمالي يقرب من 4% طوال فترة ولايته. ناهيك عن تفوّقه في محاربة الفقر واللامساواة، شاهراً سيف التحدّي في وجه آراء الخبراء، وتوصيات المؤسسات الاقتصادية الدولية.
اشتهر الرجل بفكرة إنشاء "صندوق الأسرة"، الذي تولّت الدولة من خلاله تقديم إعاناتٍ ماليةً مباشرة للأسر الفقيرة في البرازيل، وقرنت الاستفادة بالتزام الأسرة بجملة من الشروط (التلقيح، التعليم، الصحة الإنجابية...). نجحت الفكرة في تغيير وجه البرازيل؛ بعدما حقّقت ما اعتبره الأكاديمي ماتياس سبيكتور "أكبر تغيير مدته عشر سنوات للتركيب الطبقي في البلاد، منذ اليابان بعد الحرب العالمية الثانية"، إذ ساعد الصندوق على انتشال 36 مليون شخص من براثن الفقر. وكانت "فلسفة الأم" مرجعية لولا دا سيلفا في السياسة، فقد كان يقول: "أريد أن يعرف الناس أن فلسفتي في جوهرها هي فلسفة الأم. لا أحد أكثر عدالة من الأم".

بدا زعيم اليسار، خلال الأيام الأخيرة من الحملة الانتخابية، بمظهر السياسي غير المواكب للتحوّلات في البلد

على فرض أن دا سيلفا يمتلك من الموهبة والخبرة ما يساعده على وضع البرازيل مجدّداً في المسار الصحيح، فالرجل، بشرعياته المتنوّعة؛ شرعية الإنجاز والنضال والتاريخ، لم يحقق فارق أصوات كافياً للإقدام على تغييرات سياسية كبرى في البلد. ناهيك عن كونه أسير تجربته الرئاسية السابقة، فقد بدا زعيم اليسار، خلال الأيام الأخيرة من الحملة الانتخابية، بمظهر السياسي غير المواكب للتحوّلات في البلد، حيث عاد إلى أرشيفه القديم؛ فمعظم مساعديه المقربين وجوهٌ مألوفة، منذ ولايته الرئاسية الأولى، بما في ذلك نائب الرئيس، جيرالدو ألكمين ( 69 عاماً). كما استعاد أفكاراً قديمة، بيّنت المتغيرات عدم نجاعتها (مثل فكرة العملة المشتركة لأميركا الجنوبية).
على زعيم اليسار أن يدرك أن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء شبه مستحيلة، فذلك يقود حتماً إلى السقوط في فخّ كلاسيكي، في الممارسة السياسية، شهدته أكثر من دولة بالمنطقة خلال القرن الماضي. ألم يعد خوان بيرون (1973 - 1974) إلى السلطة في الأرجنتين، وعاد كارلوس أندريس بيريز (1989 - 1993) إلى رئاسة فنزويلا، وفي تشيلي عاد رئيسان سابقان؛ اليسارية ميشيل باشليت (2014 - 2018)، واليميني سيباستيان بنييرا (2018 - 2022). لكن النتائج في كل هذه التجارب كانت دون التوقعات، وأحياناً مخيبة للآمال.
أمام دا سيلفا فرصة استثنائية لتفادي هذا السيناريو، متى أحسن استغلال ارتفاع أسعار المواد الأولية والطاقة بسبب الحرب، لانتشال الاقتصاد البرازيلي من النمو الصفري الذي ظل يلازمه منذ سنوات. لن يخرج مصير اليساري العجوز عن أحد الاحتمالين: إما صناعة معجزة جديدة، تحفظ اسمه في سجل التاريخ، أو خسارة كل شيء بسبب عودة غير محسوبة العواقب.

E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري