أي سيناريوهات تنتظر تونس؟
في الوقت الذي يستمرّ فيه الجدل في تونس بشأن ما أقدم عليه رئيس الجمهورية قيس سعيّد بتفعيله الفصل 80 من دستور 2014، وأمام استمرار تدفق سيل القراءات السياسية والقانونية، والتي اعتبر أغلب أصحابها من فقهاء القانون الدستوري، ومن فاعلين سياسيين وحقوقيين ومتابعين للشأن العام، أن ما قام به سعيد انقلاب على الدستور، ونسف لمسار كامل، حسب قراءة متعسّفة وشخصية لفصوله القانونية، فيما اعتبر آخرون، ولأسباب مختلفة، هذا الإجراء الخطير محاولة من الرئيس لتصحيح مسار متعثر عاشت على وقعه منظومة هزيلة منذ الثورة في العام 2011.
وبقطع النظر عن دستورية أو عدم دستورية ما اتخذه سعيد من قرارات في ساعة متأخرة من يوم الأحد 25 يوليو/ تموز الجاري (ذكرى عيد الجمهورية)، تعلقت أساسا بتجميد عمل البرلمان ثلاثين يوما، وإقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي، ورفع الحصانة عن كل النواب، وتوليه رئاسة النيابة العمومية، علاوة على تدابير استثنائية شملت إعفاء وزير الدفاع الوطني إبراهيم البرطاجي، ووزيرة العدل بالنيابة حسناء بن سليمان، ووزير الداخلية بالنيابة هشام المشيشي، إلى جانب تكليف الكتّاب العامين لهذه الوزارات أو مديري المصالح الإدارية بتولي تسيير شؤونها، بقطع النظر عن ذلك كله، فالثابت أن تونس، بعد هذا التاريخ، لن تكون كما كانت قبله، فالحركة التي أقدم عليها سعيّد لا تتمثل فقط في ما ذكر، بل هي سعي محموم وواضح إلى تغيير كلي وجذري للمنظومة السياسية برمتها، دستوريا وقانونيا وواقعيا، يمكن اختصارها في عنوان واحد، أن سعيد أصبح الآن هو الدولة والمنظومة، وأن تونس ستدخل، على مدى ثلاثين يوما، أفقا مجهولا غير مسبوق، عنوانه الأبرز إنهاء منظومة والإتيان بأخرى مجهولة الملامح والهوية، وقد تكون طريقا معبّدة للعودة إلى الحكم الفردي والاستبداد الذي ثار عليه التونسيون. ولذلك طالبت القوى الحية، ومجمل النخب في البلاد، سعيّد بضماناتٍ قويةٍ وواضحة، حتى لا يتحول تأويله المتعسف للفصل 80 من الدستور إلى سيف مسلط على رقاب التونسيين، يحدّ من حرياتهم العامة والخاصة، ولا سيما من حرية التعبير والصحافة والتظاهر... يضع فيه الرئيس يده على القضاء، حتى لو كان ذلك تحت شعار مكافحة الفساد، معيدا زمن الزعيم الملهم والرئيس المنقذ أو المستبد العادل الذي لن يعود إليه التونسيون إطلاقا. ما هي السيناريوهات التي تنتظرها البلاد في ظل هذه التحوّلات والمفاجآت؟
أصبح سعيّد الدولة والمنظومة، وستدخل تونس أفقاً مجهولاً غير مسبوق، عنوانه الأبرز إنهاء منظومة والإتيان بأخرى مجهولة الملامح
من الطبيعي أن تكون مقدّمات هذه السيناريوهات إسراع الرئيس فورا بوضع خريطة طريق واضحة المعالم للمرحلة المقبلة، تتضمّن روزنامة محدّدة تضبط آجال انتهاء العمل بالتدابير الاستثنائية التي اتخذها، والعودة سريعا إلى نسق المسار الديمقراطي في البلاد. ورشحت معطياتٌ من اللقاءات التي جمعته برؤساء المنظمات الوطنية، الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والاتحاد التونسي للفلاحة والاتحاد الوطني للمرأة، أنها تشدّد على هذه الضمانات، وتعتبرها شرطا أساسيا لموافقة سعيد في ما أقدم عليه. وتقول هذه المعطيات إن دولا صديقة، مثل قطر وألمانيا وتركيا وفرنسا والاتحاد الأوروبي (الشريك الأول لتونس)، ذهبت في هذا الاتجاه، علاوة على مجمل الأحزاب التي نبهت، من خلال مواقفها، إلى خطورة الالتفاف على المسار الديمقراطي. ويُخشى من أن سعيّد قد قيّد نفسه بأجل شهر وحيد لتنفيذ التدابير الاستثنائية التي أعلن عنها، والواردة في الفصل 80 من الدستور، وهي مدة قصيرة جدا. وقد لا تكفي لتمرير قراراتٍ وإجراءاتٍ تهم مصير البلاد، إذ تتطلب حيزا زمنيا واسعا للمصادقة عليها وتنفيذها، خصوصا إن كانت ذات طابع تشريعي أو ترتيبي يهم تصحيح مسارات إدارية وقانونية وسياسية، وهي معرّضة للطعن في أي وقت، ان لم تكن تتمتع بنسبة عالية من الشرعية الدستورية والقانونية. إذ يبدو أن سعيّد، بعدما أقدم على ما أقدم عليه، أصبح متخوّفا من المجال الزمني الذي حدّده لنفسه، والذي قد يفقده، في صورة عدم تنفيذ وعوده، مناصريه والمؤمنين بالديمقراطية وحلفاء تونس في الخارج ومنظومة العلاقات الثنائية والدبلوماسية.
تقول جهات موثوقة إن سعيّد سيُقبل، من يوم إلى آخر، على اتخاذ قراراتٍ عديدة، تزيد في تعقيد الوضع وتشبيك مسارات صعوبة الخروج من الأزمة
ومهما يكن من أمر، وفي ظل الثلاثين يوما، فإن قيس سعيّد وجد نفسه أمام ثلاثة سيناريوهات صعبة، أولها دعوة ممثلين عن الأحزاب والمنظمات الوطنية إلى الاتفاق سريعا على الخطوط الكبرى لتجاوز الأزمة، مع التزام علني بعدم الخروج عن الشرعية الدستورية والانتخابية، وإن ما قام به ليس انقلابا على الدستور أو المسار الديمقراطي. كان ذلك المطلب الأساسي للاتحاد العام التونسي للشغل، كبرى المنظمات النقابية في تونس، والذي طالب كذلك سعيّد في بيان أصدره، بعد اجتماع أمينه العام نور الدين الطبوبي بسعيّد، بضماناتٍ أخرى، أهمها ضمان حرية التعبير ومراجعة مسألة رئاسة النيابة العمومية والتمسّك بالدستور في أي إجراء يتخذه الرئيس، والنأي بالبلاد عن العنف والفوضى، مع الحدّ من الاجتهادات المفرطة في تأويل الدستور في ما سيتخذه الرئيس من مراسيم وتدابير وإجراءات، والعودة فورا إلى السير العادي لمؤسسات الدولة، بما يضمن استمرار المرفق العمومي لكل التونسيين.
ومن غير المستبعد في هذا السياق أن تصدر عن رئاسة الجمهورية، من ساعة إلى أخرى، روزنامة قصيرة في الأجل تضبط خريطة طريق الثلاثين يوما، وبيانات تحدّد خيارات النظام السياسي الذي ستعرفه تونس خلال الأيام والأسابيع المقبلة، وخصوصا مشروع قانون تنقيح القانون الانتخابي، وفكرة الاستفتاء الشعبي لتنقيح الدستور وإجراء انتخاباتٍ سابقة لأوانها، والتحوّل إلى نظام برلماني صريح أو رئاسي صريح.
أما الخطوة التي ينتظرها الجميع، وتشكل مضمون السيناريو الثاني، فتتمثل في تعيين رئيس حكومة يبادر إلى تشكيل حكومة جديدة بصيغة مدنية، تبادر فورا بمباشرة مهامها، في ظل ما تشهده البلاد من تحدّيات قاسية، ممثلة في شحّ المالية العمومية وتردّي الخدمات وتزايد ضحايا جائحة كورونا، خصوصا وقد توفرت اللقاحات وأصبح مخزون الأوكسيجين مُرضيا، وتكليف وزير الشؤون الاجتماعية، محمد الطرابلسي، المشهود له بالقدرات القيادية والاستقلالية السياسية، بإدارة الملف الصحي.
التونسيون، نخباً وشعباً، لا يقبلون العودة إلى الوراء والتضحية بمكتسباتهم في الحرية والكرامة
أما السيناريو الثالث فيخشى فيه أن يمضي سعيّد في تنفيذ قرارات استثنائية فردية، قد لا تروق ولا تتوافق مع الضمانات التي قدّمها للمنظمات والدول والأحزاب، محتكرا السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وهو أسوأ السيناريوهات الذي قد يعجّل بانتحار سعيد سياسيا، والدخول بالبلاد في أتون المجهول. إذ لا أحد يعلم مدى التزام الرجل بتجميد عمل البرلمان للفترة المحددة بشهر، أم سيتواصل هذا التجميد، وخصوصا أن الفصل 80 (في الدستور) الذي اعتمده سعيّد في ما أقدم عليه يشترط أن يظل البرلمان في حالة انعقاد، وأن يستشير رئيس الجمهورية قبل تفعيل هذا الفصل رئيسي الحكومة والبرلمان، وذلك ما نفاه راشد الغنوشي، رئيس مجلس النواب. ويجمع متابعون للشأن السياسي، وللوضع الذي تردّت فيه تونس، على أن هذه الفرضية تظل ممكنة في غياب المحكمة الدستورية.
وفي غضون عدم وضوح ما يصدر عن الرئيس، تقول جهات موثوقة إن سعيّد سيُقبل، من يوم إلى آخر، على اتخاذ قراراتٍ عديدة، من شأنها أن تزيد في تعقيد الوضع وتشبيك مسارات صعوبة الخروج من الأزمة، تهم خصوصا تعليق المجالس البلدية أو حلها، وإقالة عدد كبير من المحافظين، ومنع سفر رجال أعمال ومسؤولين سابقين وموظفين رفيعين في وزارة العدل خصوصا. كما قد يبادر بتسمية مسؤولين جدد لكبرى المؤسسات العمومية، وإصدار مراسيم تشريعية عاجلة في شتى المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ولا يستبعد كذلك إيقاف متورّطين في قضايا فساد وإرهاب، بينهم نواب وسياسيون.
وفي ظل تواتر الأحداث وتسارعها، قد تقبل تونس على سيناريوهات أخرى أكثر تعقيدا وخطورة، بما يمكن أن ينسف مسارا كاملا للثورة والتحول الديمقراطي، أو يؤسس لجمهورية ثالثة، قوامها سلطة القانون والمؤسسات. ومهما يكن من أمر، فإن التونسيين، نخبا وشعبا، لا يقبلون العودة إلى الوراء والتضحية بمكتسباتهم في الحرية والكرامة.