أيُّ موجة إسلامٍ سياسي بعد الحرب؟
بالرغم من الرؤية الاختزالية السطحية لمضامين كثيرة في تقرير جديد لمجلة الإيكونومست أخيرا (ثورة دينية قادمة إلى الشرق الأوسط)، إلّا أنّه يساهم في إثارة ودفع النقاش المعمّق بشأن المنطقة وتأثير أحداث غزّة على أكثر من مسار؛ الأول المستقبل السياسي للشرق الأوسط، والثاني الدور المتوقّع للإسلاميين في هذا المستقبل في ضوء التطوّرات الميدانية والواقعية للعدوان الإسرائيلي، والثالث النظر في أيّ صيغة من الإسلام السياسي يمكن أن تنجم عن هذه الأحداث والتطوّرات، هل هي الإخوانية (بوصف "حماس" امتداداً لمدرسة الإخوان المسلمين) أم هي الصيغة الجهادية، وهل هو منهج "القاعدة" أم "داعش" أم خليط جديد؟ أم هي الصيغة الروحانية - الصوفية من الإسلام الذي يسعى إلى التركيز على الشأن الفردي والروحي والابتعاد بدرجة كبيرة عن الشأن السياسي؟
على الطرف الآخر، ثمة سؤال لا يقلّ أهمية على صعيد السياسات الإقليمية، لا يقلّ أهمية عن الأسئلة السابقة، يتمثّل في ما يطلق عليه السياسات الخارجية للحركات الإسلامية، بمعنى ما هو مصير تحالفات الإسلاميين في المنطقة بعد العدوان الإسرائيلي، هل سيتعزّز محور الممانعة وبالتالي التحالف بين حركة حماس وإيران وحزب الله و"الجهاد الإسلامي" والقوى الشيعية التي باتت تشكل قوى فاعلة ومؤثرة و"أنصاف دول" ( Semi- State Actors) في المنطقة، وهل تراجعت الحاضنة التركية للإسلام السياسي التي تصاعدت إقليمياً بعد الربيع العربي؟ أم أنّ الانشطار السنّي - الشيعي سيتعزّز بعد هذه العدوان، في حال لم يكن هنالك تدخّل مباشر وفاعل وكامل لحزب الله لدعم "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في غزّة؟
مثّلت أحداث الربيع العربي 2011، منعطفاً مهمّاً ورئيسياً، إذ أدّت بدايةً إلى وصول الإسلاميين إلى السلطة والسيطرة على الانتخابات في دول عربية عديدة
ستصوغ الإجابات عن هذه الأسئلة مساحة كبيرة ومهمة وفاعلة من ديناميكيات السياسات في المنطقة في المرحلة المقبلة، كما كانت الحال في أحداث تاريخية أخرى مفصلية، إذ نجمت عنها تحوّلات على صعيد صعود الاتجاهات الفكرية والدينية أو هبوطها، بخاصة لدى جيل الشباب، إذ إنّ تعريف "الجيل السياسي"، عموماً، يرتبط بحقبة ما بعد حدث كبير أثّر على وعي ذلك الجيل، وهو الحدث الذي يمثل بدايةً لموجة فكرية جديدة أو منعطفاً في موجة موجودة لاتجاه أيديولوجي أو فكري معين.
على صعيد الإسلام السياسي، مثّلت أحداث الربيع العربي 2011، منعطفاً مهمّاً ورئيسياً، إذ أدّت بدايةً إلى وصول الإسلاميين إلى السلطة والسيطرة على الانتخابات في دول عربية عديدة وتوسّع رصيد الحركات شعبياً وسياسياً. وعلى صعيد التيار السلفي العريض، نجم عنها انخراطه في اللعبة الديمقراطية والسياسية، التي لطالما كان رافضاً لها، وبروز مرحلة "المراجعات الأيديولوجية" لدى قيادة "القاعدة" في تلك المرحلة (أسامة بن لادن، وأنور العولقي وأيمن الظواهري وأبو يحيى الليبي)، وبدت الأمور وكأنّ الإسلاميين في مرحلة الذروة السياسية وفي أوج السلطة، وتشكلت حواضن إقليمية لهم، بخاصة مع تركيا وقطر، حدثت نقاشات في أوساط النخب السياسية الأميركية في الموقف من "البديل الإسلامي" للأنظمة الأوتوقراطية، وبدت هنالك توجّهات بالحوار مع الإسلاميين، ومنحهم الفرصة في الحكم، وقد عُقد في العام 2012 مؤتمر مهمّ في واشنطن، من مؤسسة كارنيجي، لقيادات في الحركات الإسلامية، والتقى وفد منهم بعد ذلك بمسؤولين في الخارجية الأميركية، بما كان يؤذن بمرحلة جديدة في المنطقة.
الاتجاه العام لجماعة الإخوان المسلمين الأم في مصر وغالبية الدول العربية حافظ على العمل السلمي والخطاب الذي يتبنّى الديمقراطية
لم تستمرّ هذه المرحلة طويلاً، لأسباب مرتبطة بالبيئتين الإقليمية والمحلية الداخلية في دولٍ عديدة، فحدث ما يطلق عليه صموئيل هنتنغتون بـ"الثورة المضادّة" (تحدُث بعد الثورات الديمقراطية التاريخية في العادة)، التي تشكلت عبر قوى محلية في دول عديدة، وكذا قوى إقليمية (لم ترحب بمفهوم الربيع العربي بأسره)، وانتهى الربيع الموعود إلى "خريفٍ قاس"، ففي مصر انتهى عهد الإسلام السياسي، وعاد الجيش من الباب الخلفي إلى الحكم، وفي سورية وليبيا واليمن وصلنا إلى حروب داخلية، وفي المغرب خسر الإسلاميون انتخابياً، عبر صناديق الاقتراع، أمّا في تونس فإنّهم خسروا انتخابياً، ثم عبر الانقلاب على العملية الديمقراطية بأسرها.
كيف انعكست الثورة المضادّة على الاتجاهات الإسلامية عموماً؟ ... كانت هنالك تنبؤات عديدة بهذا الشأن، خصوصا من خبراء عرب وغربيين، ذهبوا إلى أنّ جماعة الإخوان المسلمين ستعود إلى العنف والعمل المسلّح، لكن وبالرغم من بروز اتّجاه في الجماعة يذهب نحو العمل الراديكالي واستعادة سيد قطب وفكرة المواجهة واليأس من المسارات الديمقراطية، إلّا أن الاتجاه العام للجماعة الأم في مصر وغالبية الدول العربية حافظ على العمل السلمي والخطاب الذي يتبنّى الديمقراطية، لكن ذلك لم ينف بروز اتجاهات أخرى قوية وعنيفة؛ الأول هو صعود تنظيم الدول الإسلامية، الذي أضعف حضور القاعدة ونفوذها في أوساط الجهاديين العرب، وأدّى إلى زلزال أمني وإعلامي عالمي، ونشر الرعب في أرجاء المعمورة، وكان ناجماً عن انهيار الحلم بالديمقراطية في سورية والعراق، واستثمار الغضب لدى جيل الشباب مما حصل بعد الربيع العربي من انقلابات.
إذا كانت سردية "حماس" قوية، فإنّ ذلك سينعش الحركات الإسلامية، وإذا كانت النتيجة معاكسة فذلك سيعزّز الاتجاهات الراديكالية
على الطرف الآخر، برزت اتجاهات أخرى، من ضمنها الابتعاد الكامل عن التديّن والدين، ومن ضمنها بروز اتجاه جديد يدفع نحو الصوفية والروحانية والتديّن الفردي، وقد برزت هذه التوجّهات بصورة جلية باستطلاعات للرأي ودراسات عديدة، بخاصة التي أجرتها مؤسسة فريدريش أيبرت على دورتين متتاليتين، وأظهرت ميولاً نحو التديّن الفردي، الذي يعني اقتراباً من النمط الصوفي والابتعاد عن الإسلام السياسي. بالضرورة، لم يكن مثل هذا الاتجاه بعيداً عن محاولة التوليد والتوظيف والتصنيع من سياسات رسمية عربية معادية للإسلام السياسي، أرادت توظيف الصوفية لخدمة الاستبداد والدكتاتورية، كما سخّرت سابقاً اتجاهاتٍ سلفية معينة في السياق نفسه، لكن هذه العملية من الهندسة والتصنيع لا تعني بالضرورة أن الاتجاه نحو التصوّف والفردية بأسره مصنّع، بل قد يكون جزءاً كبيراً منه طبيعياً منطقياً، بعد حالة الإحباط واليأس من تجارب الأيديولوجيات السياسية العربية.
الآن، ما هي الصيغة أو الوجه الأكثر ترجيحاً للإسلام السياسي بعد العدوان على غزّة، وما هي الصيغة التي ستتم بها الموجة المقبلة؟! ما زال الجواب مرتبطاً بالتطورات الميدانية والدلالات والمعاني الرمزية والسياسية، التي يمكن أن يتم تجيير المعركة العسكرية نحوها؛ فإذا كانت سردية "حماس" قوية، فإنّ ذلك سينعش الحركات الإسلامية، وإذا كانت النتيجة معاكسة فذلك سيعزّز الاتجاهات الراديكالية، سواء على صعيد موجة جديدة من الراديكالية السياسية الدينية. وأتوقع أن تكون منهجية مركّبة من دورس "القاعدة" وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) معاً، وربما أيضاً يعزّز ذلك من اتجاه فئات من الشباب والمجتمع نحو التصوّف والروحانية هروباً من حالة اليأس والإحباط والغضب والاحتقان الذي يملأ الصدور بعد هذه المجازر الكارثية.
أياً كانت النتائج العسكرية المقبلة، فنحن أمام موجة جديدة من الإسلام السياسي في المنطقة، بالتأكيد ذات طابع شبابي، سوف تكون غالباً مرتبطة بغلبة لون من ألوان الإسلام السياسي، أو مزيجاً من هذه الألوان معاً.