أيها "الرفيق" بوتين
كثرت التعليقات المُتسرّعة والتحليلات المُبّسطة إثر الانقلاب العسكري، الذي جرى قبل أسبوعين في النيجر، على الرئيس محمد بازوم الذي انتُخب سنة 2021 بعد خمسة انقلابات عسكرية شهدتها البلاد منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960. وقد أجمعت هذه التعليقات على قراءة الحدث من وجهة نظر عالمثالثية، تقترب أكثر من نظرية البافلوفية السياسية منها إلى الواقع. ولقد استغلّ معلقون الفرصة ليفرغوا جعبهم من الحقد التاريخي على من اعتبروه الخاسر الأول: فرنسا، ومعتبرين بذلك أن عودة العسكر إلى حكم البلاد ما هو إلا نتيجة للسياسات التي يتبعها المستعمر الفرنسي القديم، الذي خرج من باب السيطرة والهيمنة المباشرة ليعود من النافذة الاقتصادية والتنموية.
سياسة الكيل بمكيالين من القواعد الهامة في حقل السياسات الخارجية لدول كثيرة في الغرب، وفي مقدمتها فرنسا التي، مثلاً، سبق أن دعمت الحكم العسكري في تشاد الذي يقوده الجنرال محمد إدريس ديبي منذ إبريل/ نيسان 2021، وذلك بعد إعلان مقتل والده إدريس ديبي الذي كانت له السلطة المطلقة في البلاد ثلاثة عقود. كما رحّبت بوقوع انقلاب عسكري في مصر سنة 2013 بعد بزوغ تجربة ديمقراطية واعدة رغم عيوبها البنيوية. ومن الطبيعي أنه من خلال دعم انقلاب عسكري هنا وإدانة انقلاب عسكري هناك، التناقض صارخ والمكاييل مثقوبة، فالدولة الفرنسية التي لم تتخلّص جزئيًا بعد من رواسب ماضيها الاستعماري، منحت الأولوية في تشاد كما في مصر وفي تونس، للمصالح، اقتصاديةً كانت أم سياسية، وقدّمتها على المبادئ على أنواعها. وبالطبع، لا مفاجأة تذكر في تنوّع هذه المواقف إلى درجة التناقض الصارخ، إلا للطوباويين من السياسيين وهم نادرون. ويجدر التنبيه إلى أن فرنسا درّبت كثيرين من أفراد القوات المسلحة في دولِ أفريقية عدّة، منها النيجر، ممن انقلبوا لاحقًا على الحكومات الشرعية في بلدانهم، إلى درجة صار يمكن القول إن الجيش الفرنسي يدرّب انقلابيين بعلمه أو من دون علمه.
رغم خوض بعض الإعلام العربي في الحديث حصرًا عن أهمية استراتيجية للنيجر بالنسبة لفرنسا، تتعلق بما تحصّله باريس من مادة اليورانيوم التي تكتنزها أراضي هذا البلد شديد الفقر، إلا أن الأرقام الصادرة أخيرا عن المعاهد الإحصائية المتخصّصة تشير إلى تراجع كبير في نسبة الاعتماد الفرنسي على هذه المادّة الأساسية في الحقل النووي. وقد تحقّق هذا التراجع إراديا ليصل إلى ما يعادل العشرة في المائة من الحاجات الفرنسية، ونجحت فرنسا في تنويع مصادر الحصول على اليورانيوم، لتكون كندا وأستراليا وكازاخستان من ضمنها. في المقابل، تتأتى الأهمية الاستراتيجية للنيجر بالنسبة لفرنسا وسواها من الدول الغربية، وفي مقدمها الولايات المتحدة، من موقعها الجغرافي الهام، والذي يُمثّل، بعد انسحاب مالي وبوركينا فاسو من المواجهة الغربية الأفريقية في دول الساحل الأفريقي مع الحركات الإرهابية المتطرّفة الإسلامية، جدار الصدّ الأخير لتقدّمها في دول الساحل الأفريقي. كما يوجد جانبٌ مهم آخر يتعلق بطرق الهجرة غير الشرعية التي تعتمد النيجر معبرًا للتوجه إلى المغرب وإلى ليبيا في محاولة لعبور المتوسط شمالًا.
سياسة الكيل بمكيالين من القواعد المهمة في حقل السياسات الخارجية لدول كثيرة في الغرب
بانتظار تحرّك غرب أفريقي مدعوم غربيًا سعيًا إلى إعادة الحكم إلى الرئيس الشرعي المحتجز، فمن المفيد التوقف عند محاولة تحليل أسباب حصر مواجهة الإرهابيين في الساحل الأفريقي بالشقّ الأمني والعسكري منذ البداية التي نجمت عن أحداث سبتمبر/ أيلول 2001. ويبتعد هذا الحصر عن أية محاولة فهم (وتحليل) التركيبة الاجتماعية والمناطقية في دول المنطقة، كما عن سماع وقراءة آلاف الأبحاث التي وضعها فرنسيون خصوصًا وغربيون عمومًا، والتي تُشير أساسًا إلى المنبع الاجتماعي والاقتصادي والقبلي والزراعي والرعوي لتشكّل المجموعات المتطرّفة أو بالأحرى، لاستناد مجموعاتٍ دينيةٍ متطرّفة عليها في سبيل تعزيز قوتّها واختراقها المجتمعي، بعد أن كانت محصورة التأثير تقليديًا في بلادٍ يغلب عليها الطابع الديني الصوفي البعيد كل البعد عن العنف.
التقسيمات الاستعمارية التي لم تأخذ بالاعتبار التركيب الاجتماعي والاثني والديني في كثير من دول أفريقيا عمومًا، ومنطقة الساحل الأفريقي خصوصًا، ساهمت وما تزال في تأجيج الصراعات واللجوء إلى أيديولوجياتٍ دينيةٍ متطرّفة فيها تحظى بدعم مالي وعسكري خارجي. ويساعد التوقف عند مصالح التهريب النشيط في مجمل المنطقة وعلاقة القبائل بالمراعي المتاحة واستثمار النزاعات المُعقّدة والموروثة في محاولة فهم أبجديات العلاقات في هذا الإقليم. أضف إلى ذلك استثمارٌ روسيٌ عسكري ومخابراتي واضح لإشعال جبهات جانبية تشتّت من التركيز الغربي على دعم أوكرانيا في مواجهة الغزو الروسي، ولكنها لا تستطيع ماليًا واقتصاديًا دعم الدكتاتوريات الجديدة لعجزها، فتلجأ إلى مرتزقتها الذين ينشطون بالاعتماد على نهبهم المباشر الثروات المحلية. أما الاختراق الاقتصادي/ التنموي الفعّال الذي يحصل بعيدًا عن الأعين فهو آتٍ من الصين أساسًا، وجزئيًا من الهند وتركيا.
في القمّة الروسية الأفريقية أخيرا، توجّه أحد جنرالات القارّة السوداء المُنقلب حديثًا على حكومة يدعمها الغرب إلى الرئيس بوتين، قائلاً: "أيها الرفيق بوتين...". ألم يعلم بعد؟ ألم يُخبروه، ككثير من يساريّي العالم الثالث، أنّ موسكو الشيوعية اندثرت وأنّ الإمبريالية الروسية ورثتها؟