أين العرب من لحظة إعادة تشكيل المنطقة؟
هل يستطيع العرب ادّعاء أنهم كيانات فاعلة وحاضرة على مسرح السياسة الدولية، في وقت يُصار فيه صياغة المعادلات وقواعد الاشتباك ومنظومات العلاقات وتوزيع الحصص وتعيين مراكز النفوذ على أرض العرب، فيما هم غائبون تماما عن كل هذه الترتيبات وغير مرئيين في المعادلة الإقليمية الاستراتيجية؟
لقد تجاوز الصراع بين إيران وإسرائيل مستوى الوقاحة بدرجات، عبر استخدام سماء العرب وأرضهم ولحمهم الحي، ولم يعد أي منهما يكلّف نفسه حتى عناء شرح الأسباب التي تدفعه إلى التنكيل بعرب المشرق، وكأنهم أجزاء من تركة الإمبراطورية الفارسية، أو هامش على متن دولة صهيون، أو شعوب ينحصر دورها في الإخبار عن تعداد الذين ماتوا أو جرى دفنهم أحياء أو جرى تهجيرهم.
في إطار الصراع على النفوذ بين هاتين القوتين الإقليميتين يجري، وفي وضح النهار، قتل وتهجير أهل المشرق العربي، من غزة إلى حلب والموصل، وتتخذ طهران وتل أبيب فلسطين ولبنان وسورية والعراق مساحات آمنة ومصدات لامتصاص الضربات، فقد أثبتت الضربات المتبادلة بينهما أنهما رحماء فيما بينهما وأشداء على شعوب المشرق، فإسرائيل التي تبطش بكامل طاقتها العسكرية بغزة وأهلها، تعاملت بلطفٍ مبالغ فيه في ردها على إيران، فيما كانت الأخيرة قد أخبرت إسرائيل، وعبر القناة الأميركية، بموعد الضربة ونوعية الأسلحة التي ستستهدفها بها والأماكن التي ستضربها.
أراد الطرفان، وعبر تبادل الضربات، تأكيد أنهما قوتان مسيطرتان في المنطقة، وأن الإشكالية بينهما حدود نفوذ كل منهما ومساحات الأمان لكل طرف، والصراع يجري على ترسيم هذه الحدود في الجغرافيا العربية، وبالتالي فإن الأولوية لإدارة هذا الصراع، وهو ما كشفت عنه الضربات المتبادلة بينهما.
أقدمت إسرائيل على تحطيم كل إمكانية لإقامة دولة فلسطينية عبر التدمير الممنهج للجغرافيا الفلسطينية وقتل النخب
وفي سياق إدارة هذا الصراع، برز دور أميركا واضحا، فقد عملت ضابط إيقاع من خلال إشرافها على هندسة الضربات بما يرضي الطرفين، وهذا يعني أن واشنطن لا تدير الصراع وحسب، بل ستكون ملزمة تطوير هذه الإدارة لتسليم كل طرفٍ حصّته من الأرض العربية أي أنها ترى أن مناطق نفوذ الطرفين في الجغرافيا العربية شرعية.
السؤال المطروح: أين الحضور العربي من المساعي المكشوفة لثلاثي أميركا وإسرائيل وإيران في تشكيل المنطقة وتقسيم مناطق النفوذ؟ الواقع أنه لا يمكن اعتبار الوضع العربي، في واقعه الحالي باصطفافاته وانقساماته، مؤهلا للحصول على دور ما في هذا التشكيل الجاري، ويبدو أن صناع القرار العرب قانعون بالمصائر التي تنتظر المنطقة وقانعون بحكمة ثلاثي أميركا وإيران وإسرائيل في إدارة هذه اللعبة؟
قد يكون السبب في ذلك قناعة اللاعب العربي بأن المنطقة المستهدفة بالتشكيل تنحصر في المشرق العربي، فلسطين ولبنان وسورية والعراق، وهذه المنطقة سقطت منذ زمن من حسابات العرب، وهي منطقة صراع إقليمي شرس تشترك فيه إضافة للقوى الثلاث المذكورة تركيا، وبالتالي فإن منازعة هذه القوى للحصول على دور في هذه المنطقة ستكون عملاً غير مجدٍ، فضلا عن كونه غير واقعي بالنظر لموازين القوى المختلة وظروف اللاعبين.
وثمّة حسابات أخرى تندرج في هذا السياق، من نوع أن بلدان المشرق، وخاصة فلسطين وسورية ولبنان، بلدان واقعة اقتصاديا وخربة وتحتاج أموالا طائلة لتصبح دولا وكيانات سياسية حقيقية، فيما لا توجد مؤشّرات على أن مجتمعات هذه الدول ونخبها ستتوافق في يوم قريب على صيغ ناجحة لإدارة بلدانها وإخراجها من المَآزِق التي وضعت دولها بها، أو وُضعت هذه البلدان بها.
بلدان المشرق، وخاصة فلسطين وسورية ولبنان، بلدان واقعة اقتصاديا وخربة وتحتاج أموالا طائلة لتصبح دولا وكيانات سياسية حقيقية
صحيح أن هذه قراءة واقعية للنتائج الحاصلة، لكن السؤال هو كيف وصلت الأمور إلى هذه الخلاصة؟ ألم يكن ذلك عبر هندسة وصبر استراتيجي طويل المدى؟ ألم تخضع هذه البلدان لسياسات تخريبية مقصودة ومدبرة، مثل قيام إسرائيل بتحطيم كل إمكانية لإقامة دولة فلسطينية عبر التدمير الممنهج للجغرافيا الفلسطينية وقتل النخب، ألم تعمل إيران تدميرا وتحطيما بسورية، دولة وشعبا، حتى توصلها إلى هذا المكان وتصبح بلا مستقبل ولا أمل؟
دائما كان الفراغ العربي الخلفية التي وقفت وراء انهيار مجتمعات المنطقة، مثلما كانت الخلفية التي حفزت اللاعبين الخارجيين على القيام بأدوار تخريبية وصلت إلى حد استباحة شعوب المنطقة وجغرافيتها، فلا دولة قائدة يمكن أن يحسب لها حساب، ولا تكتل عربي ناجح قادر على فرض خطوط حمر وسياسات ردع تجاه اللاعبين الخارجيين، زاد ذلك كله من حراجة الوضع الإستراتيجي للعالم العربي، ودفع الفاعلين فيه إلى الانكفاء والبحث عن الخيارات التي تضمن السلامة ولا شيء آخر دونها.
لنكن واقعيين، لا الصراع في المشرق العربي سيبقى هناك ولن يتمدد صوب بلدان أخرى، وتحديدا دول الخليج ومصر، ولا الأطراف المتصارعة ستتوقف عند حدود المشرق العربي، فالجائزة أصلا تقع خلف هذه الحدود، وللحصول عليها لا بد من إقامة مناطق ارتكاز وانطلاق صوب بلدان الجائزة، وهذا الأمر يحتم على العرب، مصر ودول الخليج، الانخراط بقوة في صناعة معادلة ردع عربية دون الخضوع لأميركا واشتراطاتها ووعودها، ليس من أجل بلدان المشرق العربي، ولكن حتى لا تتكرس معادلة أن لإسرائيل وإيران، وربما تركيا وإثيوبيا، الحق في استباحة المنطقة العربية كلها، تحت ذريعة أنه يحقّ للقوي السيطرة على مساحة أمان ومناطق نفوذ طالما لا يؤثر على مصالح المدير الأميركي.