أوهام بكل الألوان
تباهى الإعلام المصري سنواتٍ بإقامة مشروعات باهظة التكلفة، والإعلان عن صرف مبالغ طائلة ومبالغ فيها على البنية التحتية، إلى درجة أن الرقم المعلن وصل إلى 400 مليار دولار. وبعد الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي يعاني منها المصريون، وجد المسؤولون أن تلك الأرقام مستفزّة للمواطنين الذين يشتكون من صعوباتٍ كبيرة في تدبير قوت يومهم، ويتساءلون عن جدوى إنفاق هذه الأموال على أمورٍ لا تمثّل أولوية. ولذلك اتّجه الإعلام إلى جُرعاتٍ تخديريةٍ من نوع جديد، بغرض الإلهاء وشراء الوقت، تتمثل في تبشير المصريين بالكنوز والثروات التي تم اكتشافها، والتي ستدرّ لبنا وعسلا وتجعل الجميع أغنياء، في أداءٍ مشابه للفنان أحمد مظهر، الذي كان يمنّي الفنان إسماعيل ياسين بأنه سيشتري منطقة العتبة الخضراء في القاهرة. وعندما فشلت الخطة، قرّر إسماعيل ياسين شراء السكك الحديدية، ليخبره أحمد مظهر أنه سيساعده في ذلك أيضا!
المثير للتأمل، والسخرية أيضا، أن عددا من تلك الأوهام الجديدة مرتبطة بالألوان، فمن الرمال السوداء إلى الهيدروجين الأخضر، إلى القطن الأبيض، إلى الذهب الأسود! كلها كانت عناوين للدعاية الرسمية خلال الأسابيع والشهور الماضية، فضلا عن موضوعات إلهاء أخرى، مثل مشروع "الدلتا الجديدة"، وترويج أن مصر ستصبح مركزا إقليميا لإسالة الغاز وتصديره، والإعلان عن مشروعاتٍ لإعادة تدوير النفايات، وغيرها من أمورٍ شغلت أجندة الإعلام المصري من باب تسلية المواطنين الذين لم يروا لها أي أثرٍ على أرض الواقع.
على سبيل المثال، أطلقت صحفٌ رسميةٌ على الرمال السوداء أوصافا مثل "الكنز الأسود الأغلى من الذهب"، الذي "سيدفع عجلة التنمية ويعظّم الاستفادة من الثروات المفقودة، ويساهم في توفير المليارات"، كما وصفته بأنه "لا يُقدّر بمال". لكن كان على الإدارة المصرية، طالما أنها ترغب في توفير المليارات بالفعل، أن توفّر ثمن عشرات المشروعات الأخرى التي لم يكن لها أي جدوى اقتصادية أو أولوية، مثل المونوريل والقطار الكهربائي والقصور الرئاسية والعاصمة الإدارية والعلمين الجديدة، وغيرها الكثير. وهي مشروعاتٌ استفاض كثيرون في الحديث عنها إلى درجة كبيرة، حتى أصبحت معلومة للجميع.
استفاضت وسائل الإعلام في تبشير المصريين بأن بلادهم ستُصبح مركزا إقليميا للطاقة في الشرق الأوسط، وهو ما لم يتحقق
والحقيقة أن هذا المشروع ليس جديدا بالمرّة، بل تحدّث فيه كثيرون على مدار السنوات الماضية، كما أن تحقيقه عائداتٍ ليس بالسهولة التي صوّرها الإعلام. فضلا عن أن أحدا لن يستطيع مراقبة سير العمل، ولا معرفة المصروفات والأرباح التي ستختفي داخل ثقب أسود، مثل المشروعات الأخرى التي ذهبت ولم تعد.
قبل الرمال السوداء، استغرق الإعلام المصري سنواتٍ في الحديث عن "الذهب الأسود"، المتمثل في حقول الغاز المكتشفة حديثا، والتي كان من المفترض أن تحقّق الاكتفاء الذاتي لمصر، فضلا عن التصدير وجني مليارات الدولارات، فإذا بالحكومة المصرية تتفق على استيراد الغاز من إسرائيل! ووقتها خرجت جرعةٌ تخديريةٌ أخرى لتبرير الصفقة، تفيد بأن مصر ستستورد الغاز لإسالته في محطّات محليةٍ ثم إعادة تصديره إلى أوروبا. واستفاضت وسائل الإعلام في تبشير المصريين بأن بلادهم ستُصبح مركزا إقليميا للطاقة في الشرق الأوسط، وهو ما لم يتحقق، وإذا باليونان وإسرائيل وقبرص توقًع اتفاقا لخط أنابيب للغاز في شرق المتوسط قبل عامين من دون مصر!
تتميّز هذه "البشريات" والجرعات التخديرية بأن صلاحيتها لا تتجاوز أياما قليلة، فهي تنطلق فجأة في كل وسائل الإعلام وأبواق الدعاية، التي تقول كلاما متطابقا، مع إطلاق عشرات من الوعود، ثم سرعان ما يخبو الحديث، لأن الإعلام في بيئة الاتصال الحالية لا يستطيع أن يفرض موضوعا ما إلا فترة قصيرة جدا، إذ سرعان ما يملّ الناس وينصرفون إلى ما هو أهم، وإلى مشكلاتهم الحقيقية الآنية التي لا تؤثر فيها وعودٌ مستقبليةٌ بتحسّن الأحوال. ولذلك تقتصر وظيفة هذه "البشريات" على شراء الوقت للنظام بمعنى الكلمة، وإعطاء جرعاتٍ مخدّرة للمواطنين الذين ما زالوا يصدّقون وسائل الإعلام المؤمّمة والمسيطَر عليها، وهم قلة قليلة على أي حال.