أول يوم في 2023
يفرح بعض الناس بدخول سنة جديدة. يشعرون بالارتياح لرحيل السنة الماضية، بهمومها، وتحدّياتها، ومتاعبها، وأحياناً مصائبها.. ويحزن آخرون، معتبرين أن أعمارهم نزفت سنة، والعمر، كما يقول أهل الشام "مو بعزقة"، أي لا يجوز تبديده. أو القول: آهِ ما أطيبَه بَدَدَا.. وفريق ثالث، وهؤلاء قلة، يقفون مع أنفسهم، ويحاسبونها على ما أنجزت، وما أهملت. وأما "العاشقون"، عيني عيني على العاشقين، فيُقاس الزمن عندهم بلقاء الحبيب، وهذا ما لخّصه أحمد رامي في أغنية "عوّدت عيني على رؤياك"، حينما ترفع أم كلثوم صوتها مخاطبة الحبيب "إن مرّ يوم من غير رؤياك، ما ينحسبشِ من عمري".
العمر الجميل، اللذيذ، بدأ يُدَّخَرُ مع دخولنا عصر السرعة، قبل حوالي ربع قرن. أصبحت حاجاتُك الأساسية، إذا كنت تعيش في بلاد متحضّرة، تُنجز في زمن قصير، فلا تضطر لأن تجري جولة عبثية، يومية، على محطات البترول في بلدتك والقرى المجاورة لها، عسى أن تحصل على بعض الليترات من المازوت، فأنت تحصل على التدفئة في منزلك بكبسة زر، أو بتدوير لولب، ولستَ بحاجةٍ لأن تقف ثلاث ساعات على الدور، لشراء قليلٍ من الرز والسكر والشاي، فكل شيءٍ، حتى حليب السنونو (على سبيل المجاز)، متوفر في السوبر ماركت القريب من بيتك، وإن أردتَ أن تتكاسل عن زيارة السوبرماركت، فالشركات التجارية الجبّارة تعرض أمامك، على شاشة هاتفك، أو حاسوبك، ملايين الأشكال والألوان والقياسات من البضائع، مع حسوماتٍ مغرية، وعندما تطلبها تصل إلى بيتك، وإذا لم تعجبك، يمكنك استبدالها خلال زمن محدد..
وإذا كنتَ كاتباً؛ باحثاً، أو أديباً، فالمعاني، بالنسبة إليك، لم تعد مرميةً على قارعة الطريق تحتاجُ مَن يلتقطها ويستخدمها، كما قال معلمنا الجاحظ، بل إنها مخزّنة في محرك غوغل، وويكيبيديا، ويوتيوب. وما عدتَ في حاجةٍ لأن تملأ جدران إحدى غرف منزلك بالرفوف، وتصفّف عليها الكتب والمجلات، بل يمكنك حفظ الكتب والوثائق في "هارد" صغير، وهذا تدبير احتياطي. أنت غير ملزم به أصلاً، لأن المعلومة المحفوظة على محرّك البحث لن تتزحزح من مكانها، ويكفي أن تضع كلمة أو كلمتين من عنوانها في حقل البحث، لتأتي أمامك جاهزة، مفصلة، موثقة.
لم يعد المثقف الدمشقي ينتظر صديقاً يثق به حتى يذهب إلى بيروت، ليوصيه على كتاب، أو مجلة غير مسموحٍ بتداولها في دولة "البعث" الصامدة في وجه الغزو الثقافي الإمبريالي الذي يريد أن يشوّه هويتنا ويقتلعنا من جذورنا، إذ يكفيه أن يفتح "اللابتوب"، ويبحث عن الكتاب، وسيجده، مع مئات ألوف من الكتب المهمة، وحتى التافهة، محمّلاً على عشرات المواقع، يأخذه خلال دقيقة، ويبدأ بقراءته من دون تنفيذ السيناريو الذي كان متّبعاً على أيامنا، عندما كانت السيارة المحمّلة بالمطبوعات اللبنانية، أو العربية الأخرى التي تأتينا عبر لبنان، إلى مبنى وزارة الإعلام في أوتوستراد المزّة، ويُنزل العتالون حمولتها. وتبقى في انتظار أن يأتي من يوزّعها على الموظفين في دائرة الرقابة، وأن يتاح للموظفين وقت، خارج أوقات تناول الفطور، وشرب الشاي، والتدخين، ليراقبوها، فإذا وجد أحدُهم في إحدى صفحات الكتاب كلاماً يخدش الصمود والتصدّي، ويُضعف الروح المعنوية لجماهير شعبنا الكادحة، يرفعه إلى رئيس الدائرة. وحينما يجد هذا الأخير وقتاً ليتصفّح البريد، يأمرهم إما بمنع المطبوعة من الدخول، أو "شقّ" الصفحات التي تحتوي على غزوة ثقافية متآمرة علينا، ثم إدخالها إلى البلاد، بعد أن يكون قد مضى على وصولها أسبوع في الحد الأدنى، فإذا كانت المطبوعة صحيفةً أو مجلة سياسية، تحكي عن الأحداث، يصبح من واجب مواطننا المحميّ من الغزو الثقافي، أن يقرأها بائتة.
الشيء الجميل، الرائع، العظيم، في ثورة الاتصالات، وأنهار المعلومات المتوفرة على "النت"، أنها تحرّر عقولنا من الخرافات، برضانا، وأحياناً على الرغم منا.