أوكرانيا وكسر"التابو" الأخير للديمقراطية

17 ابريل 2022
+ الخط -

يتحدّث الكل عن الخسائر المباشرة المادّية التي تطاول البنى البشرية والسياسية والاجتماعية والعمرانية في الحرب الروسية على أوكرانيا (14 فبراير/ شباط 2022)، وقليلون يتحدّثون عن الخسائر المعنوية غير المادية وغير المباشرة التي تطاول بالكسر التابو الأخير للديمقراطية الغربية.

لم يستطع النظام الديمقراطي فرض نفسه بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار جدار برلين العام 1989، والعائق الأساسي هو السلطة السياسية التي رأت في الديمقراطية عدوا مباشرا لها، فجاءت الحرب نقيضا جدّيا لتعميق الديمقراطية في العالم، لتذهب بالأمور إلى الأسوأ. وبما أن لا بديل عن التشنجات القومية، أو انطواءات الهوية الذاتية، او عن الحرب والنزاعات المسلحة، يتساءل كثيرون عما إذا انتهت العولمة إلى اختراقات في مشروع إيمانويل كانط (1724-1804) عن "المجتمع الدولي المسالم"، أو إلى ما يشبه الحرب التي تخيلها توماس هوبز (1588-1679): "كل واحد ضد الآخر"، أو "الجميع ضد الجميع"، أو إلى "حروب العولمة" وفق مصطلح هربرت جورج ويلز (1866-1946).

تشكّل حرب أوكرانيا خيبة أمل في هذا السياق، إذ تأتي بعد جائحة القرن (كورونا)، وفشل النظام الصحي العالمي على نحو شامل، ومعها وصفات الخروج من آثار الانكماش الاقتصادي العالمي، والتضخم الذي يهدّد الاقتصادات العالمية، وفق ما يتفق عليها غالبية الخبراء العالميين. إنها تأتي في سياقات مختلفة عن زمن روما القيصرية. بالتاكيد، لسنا في زمن ديمقراطي إغريقي، ولا في زمن الجمهوريات التجارية في القرون الوسطى، أو زمن الليبرالية الإنكليزية في القرن الثامن عشر.

ما فائدة الديمقراطية، او الديمقراطيات، التي لا تقوم على ترقية الازدهار والسلم، وعلى مراجعة بيانات الحرب العالمية الأولى في ذكرى مئويتها ومقاربة الأسباب والسياقات والتداعيات، والحرب العالمية الثانية وخسائرهما المرعبة؟

الإهانة قائمة، ولا يهم إذا كانت الأرض هي السبب، أو الجغرافيا السياسية هي السبب، أو الدين هو السبب، أو الوطن هو السبب، أو العائلات الروسية هي السبب

يلقي العنف المادي بقدر كبير من اهتمام العالم على الضفة الأخرى من مصطلح "الحرب الطيبة". وكما كتب تشارلز تيلي، في "صناعة الحرب" (2016)، أن "الدولة بوصفها جريمة منظمة تقوم بنشاط البلطجية نفسه في الإتاوات، متحصّنة بميزة الشرعية". وتبين، عبر أمثلة تاريخية من التجربة الأوروبية، "أن الدولة الحديثة هي نتيجة غير مقصودة لسعي بناة الدولة إلى تأمين مصالحهم عبر صناعة الحرب، واستخراج الموارد من المناطق المحكومة، وتقديم الحماية للطبقات الحليفة". .. نحن على النقيض إذا من الديمقراطية، عدنا إلى أقسى الأمور السيئة، مع اشتداد الحرب الباردة من نوع التهديد الروسي باستخدام الأسلحة النووية، أي عودة إلى خطاب النهايات مجدّدا مع فوكوياما. هذا يحدث في زمن التغيير، الذي حدث في إدراك الشعوب ومعارفهم الحديثة إزاء ما شاهدوه وما قرأوه وما سمعوه عن أسباب الحروب وويلاتها تلك.

يجب أن لا نلقي السبب على الطرف الروسي وحده، ولا على هذا الطرف الأوكراني، أو الأميركي، أو غيرهم، إذ يعود السبب إلى فشل الديمقراطية الغربية نفسها. إذا وضعنا الأسباب التى قادت إلى الحرب، وهي كثيرة، تصبح الأجوبة سخيفة، مثل الأسئلة في غياب وسيلة تنقذ العالم من حربٍ عالمية ثالثة، فلا منطق الحرب الروسية يمكن تبريره باستخدامها أسلحة الدمار الشامل. ولا منطق مقاومة الأوكرانيين الضعفاء، أولئك الذين تضم أراضيهم كثيرا من القمح والطاقة والألوان والمعادن، وبالدفع في منطق الحرب ضد الحرب في شبه حرب أسطورية لها قوة الشرعية.

اللاعبون في الحرب ليسوا وحدهم أصحاب السيادة. لنتذكّر جيدا أن محور الجدل بين المثاليين والواقعيين ما بين الحربين العالميتين كان البحث عن أفضل السبل التي تمنع الوصول إلى حربٍ عالمية ثالثة. كل المواطنين في العالم يتوزّعون تلك السلطة بنظرية الحياة، وفي غالبيتهم فقراء. لكن الإنسان كما رآه كارستن نيبور (1733 - 1815): "ملطّخ بالخطيئة الأصلية، وأنه قادرعلى القيام بالأعمال الخطرة"، كما جنود الحرب لا يملكون سلطة الأغنياء وتجار السلاح وأولئك الذين يحكمون العالم، إذ تتطور الأمور معهم إلى مشهد من القتال والانتحار المشترك. لا معنى للحرب. كما لا معنى للديمقراطية إذا كانت النتيجة واحدة، انتهاك الشرط الإنساني المقيم في المدن الأوكرانية التي فرغت من ناسها، أو في المدن الروسية التي ستعاني شعوبها طويلا من العقوبات الأميركية والأوروبية، أو العالم الذي سيعاني من عودة شبح نظريات توماس مالتوس (1766 - 1843 ) وحرب سلة القمح".

ثمّة من يعطي انطباعاً أن من أهداف الحرب الأوكرانية استمرار هيمنة النسق الاقتصادي القائم في السبعينيات والثمانينيات

يضع هذا ما يجري تحت النقاش، إذ لم يجد العالم المتمدّن وسيلةً لإعادة إحياء المسارات السلمية، كي لا نفقد ليس فقط الديمقراطية، بل أيضا نفقد الأمل في أن نرى يوما تكون فيه حقوق الإنسان فيه محترمة على هذا الكوكب الذي يفقد سمات المجتمع الدولي، وينحدر إلى فكرة هانس مورغنتاو عن السلطان "مفهوما مفتاحا" للعلاقات بين الدول. وهذا يشير، مرّة أخرى، إلى خيانةٍ ستطبع دائما الإنسانية في حربٍ اعتبرها الفاتيكان من على شرفته "إهانة للإنسانية"، فيما اعتبرها بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية على الضفة الأخرى الكنسية في روسيا "إهانة للعرق البشري". في الحالتين، الإهانة قائمة، ولا يهم إذا كانت الأرض هي السبب، أو الجغرافيا السياسية هي السبب، أو الدين هو السبب، أو الوطن هو السبب، أو العائلات الروسية هي السبب. .. الأهم أن لا ياخذنا السبب إلى ما تعانيه الديمقراطية الغربية من أزمات في السنوات الأخيرة، لا بل منذ أحداث 11 سبتمبر (2001)، في تطور معاكسٍ للأحداث الدولية في البحث عن سلطانٍ ما، هو استجابة للمصلحة الوطنية، وهو الحاجة للدفاع عن وجود الدولة، إلا أن هناك، في كل لحظة، خطر نشوب حرب، وخطر الحرب يقود إلى مزيد من التمزّق المتزايد في العالم، ومن أزمات مالية عالمية، وتدخلات في السياسة والإعلام والاقتصاد تُحدِث التعارض بين الشعوب والبلدان.

ثمّة من يعطي الانطباع أن وراء الحرب الأوكرانية أهدافا أخرى، من نوع استمرار هيمنة النسق الاقتصادي القائم في السبعينيات والثمانينيات، والنتيجة "حرب مسمومة" في مواجهة "ديمقراطية مسمومة". من المؤكد الحديث عن "انعدام الكفاءة الديمقراطية" في كل حرب، ويضاف إلى ذلك ضعف الاقتدار الذي تستوجبه القيادة السياسية، لكي لا تكتسب الحرب مصادر صراعات أخرى بشأن الغذاء والطاقة والدواء. وفي عالم يشهد صراعاتٍ حادّة يبقى "تابو" واحد، هو الديمقراطية، إذا أعدنا الاعتبار لخصائص المجتمع الحديث، معزّزا بآليات الرقابة والضبطية وبالتطور التكنولوجي والعقلنة. الحالة القصوى هي اللجوء إلى الحرب وتمركز السلطة في استعمال العنف. كذلك الأمر بالنسبة إلى رفض مبادئ الأخلاق وقواعد القانون الدولي، وهذه إشارة أخرى إلى خيانةٍ ستطبع دائما الإنسانية. صورة أخرى عن لورنزو دي بييرودي ميديشي (1499-1492). استراتيجية العالم المذبحة تأتي في صورة شارع مديني وآخر تكسوه الجثث. صورة أخرى عن تفجر الهمجية على أرض الآخرين، ومن خلال تكرار الفظاعات نفسها. لعل جريمة توماس ويلسون (1856-1924) أنه تحدث عن وحدة شعب، لكنه لم يحدّد طبيعة تلك الوحدة: وحدة عرق، مساحة معينة من الأرض، أو جماعة معينة. وبتطبيق هذا المبدأ، تحول التاريخ الذي هو زمن بشري، مع اقتراف الإساءة مرة واحدة، خطرا على السلام والاستقرار العالميين.

يقظان التقي
يقظان التقي
إعلامي وأكاديمي ومترجم لبناني، له عدد من الكتب، دكتوراة في الدبلوماسية والعلاقات الدولية.