أوكرانيا .. مستنقع الخنازير
كاتب صحافي سوري، منتج محتوى تلفزيوني، عمل في وسائل اعلام عربية ودولية. واكب تطورات المشهد الليبي بعد سقوط القذافي عن كثب، وعمل في وسائل اعلام ليبية، متخصص في الملف الليبي، ماجستير في العلوم السياسية.
كشفت العملية العسكرية الروسية على أوكرانيا تناقضاتٍ كثيرة في السياسات الدولية الغربية، وكذلك في المنظومة القيمية والسلوكية لمجتمعات ديمقراطية عديدة. والاستحقاقات الإنسانية غالباً ما كانت تضع الغرب "الديمقراطي" في مأزق، بين ممارساته الداخلية ضمن مجتمعه المحلي ومواقفه من قضايا مجتمعات أخرى، بدءاً بقضية الشعب الفلسطيني وليس انتهاءً بالمأساة السورية.
في الحالة الأوكرانية، نحن أمام مجموعة من المواقف المتناقضة، إذ لا تستطيع فهم المعايير التي على أساسها اتخذت هذه المواقف، فكيف لشركاتٍ مثل يوتيوب وفيسبوك وتويتر وغوغل، تعمل في دول تتغنّى بالديمقراطية والحريات، أن توقِف وسائل إعلام عديدة محسوبة على الحكومة الروسية، وتمنعها من البثّ على منصاتها، وإيصال روايتها للناس، بغض النظر عن موقفنا من سياسات موسكو، ولكن حرية الإعلام لا تتجزأ، وليس هناك أي معيار مهني يبرّر كتم الرواية الأخرى، حتى وإن كانت رواية المعتدي. هذا إعلام يبثّ محتوى، وليس كتيبة عسكرية تطلق صواريخ!
الخطاب التمييزي له جذور في وعي الغرب ونظرته إلى بقية المجتمعات
يذكّرنا هذا بما فعلته جامعة الدول العربية في بدايات الربيع العربي، عندما طالبت إدارتي "عربسات" و"نايلسات" بايقاف بث عدة قنوات تلفزية، كانت مقرّبة أو ناطقة باسم بعض الأنظمة التي ثارت شعوبها عليها، بينما كانت الشعوب تنتظر تدخلاً حاسماً ومنقذاً لها من آلة البطش والقتل التي فتكت بالمتظاهرين، فإذا بالجامعة تطلب إيقاف "بطش" الرواية الإعلامية لتلك الأنظمة القمعية. والآن ينتهج الغرب الديمقراطي النهج نفسه.
في السياق ذاته، كانت صادمة للرأي العام تصريحات بعض أشهر المراسلين والصحافيين الغربيين عن الحدث الأوكراني، من زاوية المقاربة بين اللاجئين الأوكرانيين وغيرهم من العرب والمسلمين. وحسناً فعل بعضهم بالتراجع والاعتذار عمّا بدر منه من خطاب تمييزي على أساس العرق واللون والدين. لكنّ هذا الخطاب لم يكن وليد اللحظة، بل له جذور في وعي الغرب ونظرته إلى بقية المجتمعات، وربما يعدّ صعود اليمين المتطرّف إلى الحكم في دول أوروبية عديدة، والمعروف بسياساته العنصرية والرافضة استقبال اللاجئين، مؤشّراً على هذه النظرة.
وفي تقييم التغطية الإعلامية الحدث الأوكراني، نرى أنّها، غربياً وعربياً، منحازة بشكل شبه كلي للرواية الأوكرانية، مع تغييب شبه كامل للرواية الروسية، وعدم إفراد المساحة نفسها لها في النشرات والبرامج التي تتناول الحدث، فغالبية وسائل الإعلام تتحدّث عن الغزو الروسي أوكرانيا والاعتداء على سيادة دولة عضو في الأمم المتحدة، والتسبب في مقتل مدنيين، ولجوء الملايين، وقصف منشآت مدنية وخدمية للشعب الأوكراني، وهذه الإضاءات محقّة ومطلوبة، لكنّها نادرة تلك الوسائل التي تسلط الضوء على فئة واسعة من المجتمع الأوكراني ذات الأصول الروسية، والتي تبني موسكو روايتها في غزوها أوكرانيا عليهم، بأنّها تدخلت لحمايتهم من التمييز العنصري والسلوكيات "النازية" التي كانوا يتعرّضون لها من الأوكرانيين، إذ كانوا يعامَلون معاملة مواطنين من الدرجة الثانية كما تزعم موسكو، وبعيداً عن صدقية هذه الرواية أو عدمها، فإنّ هذه الزاوية تستحقّ الإضاءة عليها من الإعلام. نحن أمام فئة بشرية عددها بين عشرة ملايين و12 مليون أوكراني من أصول روسية، لم نعلم بعد بدقة موقفهم، وكيف كانوا يُعاملون من الدولة والمجتمع الأوكرانيين، وما هي مطالبهم ومخاوفهم؟
لافتٌ أنّ وسائل الإعلام أصبحت تهبط إلى مستوى الخطاب المتفاعل على منصّات التواصل الذي غالباً ما يكون بعيداً عن الدقة والموضوعية
هناك حالة غير موضوعية، انساقت معها غالبية وسائل الإعلام التي تغطّي الحدث الأوكراني، وكذلك غالبية الصحافيين والمؤثّرين الذين يمتلكون عاطفة نخبوية، إذ يتفاعلون مع الحدث (الترند)، بينما يغيب هذا التعاطف مع أحداث أخرى لا تتوفر فيها صفات "الترند". ولافتٌ أنّ وسائل الإعلام أصبحت تهبط إلى مستوى الخطاب المتفاعل على منصّات التواصل الذي غالباً ما يكون بعيداً عن الدقة والموضوعية، وأقرب إلى الشعبوية والحالة الغريزية المنقادة مع الجموع، بدل بناء رسالتها على معايير مهنيةٍ تؤدّي إلى الحدّ من "الشعبوية السوشيالية" والارتقاء بوعي المتلقي عبر خطابٍ أكثر رصانة وموضوعية ودقة في نقل المعلومات، والإضاءة على زوايا مهمة ومؤثرة في تفاعلات الحدث، غالباً ما تكون غائبة عن التغطية الإعلامية بسبب الحالة "الغرائزية" في التفاعل معه، بمعنى السير مع الجموع في التعاطف وغياب النظرة النقدية من زاوية مختلفة.
ومن مفارقات غريبة في الحدث الأوكراني استقطاب المرتزقة والمقاتلين الأجانب، إذ قرر الرئيس الأوكراني، زيلينسكي، إنشاء فيلق دولي للمتطوعين الراغبين بقتال الجيش الروسي، ربما سيسمّى هؤلاء الأوكران الغربيون أو الأوروبيون الأوكران. لا نعلم، وقد أعلنت كييف عن تلقيها طلبات فاقت عشرين ألف متطوع من 52 دولة حتى ساعة كتابة هذه المقال، أعربوا عن رغبتهم بالقتال لجانبها ضد الروس. وقد وصلت مجموعاتٌ من هؤلاء بالفعل إلى ساحة القتال، وسمحت حكومات غربية، مثل كندا والدنمارك وبريطانيا بهذا رسمياً. وتنظر المجتمعات الغربية إلى هؤلاء نظرة فخر واعتزاز، بالإضافة إلى هؤلاء، هناك كتائب تنشط على الأرض، مثل كتيبة آزوف اليمينية المتطرّفة التي انضمت رسمياً إلى الحرس الوطني الأوكراني في عام 2014، ويؤمن أفرادها بتفوّق العرق الأبيض، وتجذب المتطرّفين من كلّ العالم، وتستعدّ هذه الكتيبة لمواجهة المقاتلين الشيشان المسلمين الموالين لموسكو، والذين يقدّر عددهم بعشرة آلاف، جلهم من كتيبة رجال قديروف (قديروفستي)، نسبة إلى الرئيس الشيشاني الموالي لبوتين، رمضان قديروف، كما تشير تقارير صحافية إلى تجنيد موسكو مقاتلين سوريين للقتال بجانبها.
إذاً، نحن هنا أمام مشهد سوريالي، مقاتلون مسلمون موالون لموسكو التي قتلت عشرات آلاف من المسلمين الأفغان والشيشان والسوريين، ودمرت مدناً برمتها في البلدان الثلاثة، في مقابل مقاتلين من اليمين الغربي المتطرّف المناهض للمسلمين في معركةٍ تجري على أرض أوروبية وفي دولة نووية، بمباركة من العالم المسيحي والغربي!
ما هو محلَّل ومشروع اليوم في أوكرانيا كان محرَّماً ومجرَّماً أمس في سورية. وهذا تناقض فجّ
الاعتقاد أنّ بوتين ومخابراته الضليعة في تجنيد المرتزقة وتفريخ الإرهاب سيطيلون أمد هذه الحرب بالوكالة، عبر هذه العناصر وغيرها، مثل مجموعات "فاغنر" وسيجري شحنها بخطاب قومي روسي وديني إسلامي، في مقابل خطاب يميني متطرّف يؤمن بتفوّق العرق الأبيض على الجهة الأخرى. هذا عدا عن قدرة استخباراته على اختراق تلك المجموعات، عبر عناصر ربما ستعمل على إشعال أحداث مروعة ذات صفة دينية أو عرقية، تستثير حالة غرائزية لاعقلانية لمجتمعات أولئك المقاتلين. وحينها سنكون أمام احتمالية كبيرة لتفجّر موجة جديدة من العنف ذي الصبغة الدينية أو العرقية في الغرب، لا ندري أين ومتى ستقف.
في المقابل، جرى تصنيف جميع المقاتلين الأجانب الذين جاءوا للقتال في سورية مع جانب أحد طرفي الصراع بأنهم إرهابيون، وتجري ملاحقتهم وقتلهم أو اعتقالهم. إذاً، ما هو محلَّل ومشروع اليوم في أوكرانيا كان محرَّماً ومجرَّماً أمس في سورية. وهذا تناقض فجّ، لا يستطيع أحد تبريره تحت أي مسمّى، فالقانون الدولي والجنائي المحلي واضح، ينصّ على أنّ هؤلاء مرتزقة وإرهابيون أو مجرمون، وجبت محاكمتهم في الحالتين، بغضّ النظر عن الموقف السياسي لهذا الطرف أو ذاك، فشرعنة قتال عناصر أجنبية في أوكرانيا لصالح أحد الأطراف ستنسحب تلقائياً على شرعنة قتال عناصر أخرى في ساحات ودول أخرى، وسنكون أمام بادرة بالغة السوء سيكون لها تداعيات خطيرة في الدول التي تشهد اضطرابات، بادرة لو ترسّخت سيجد العالم نفسه أمام موجاتٍ شديدة العنف والتطرّف، تولد من رحم الأزمة الأوكرانية المرشحة أن تتحوّل إلى مستنقع خنازير، ربما نشهد معه ليس ولادة نظام عالمي جديد فحسب، بل نظام قيمي سلوكي انتقائي لا وزن فيه للقانون والإنسانية.
كاتب صحافي سوري، منتج محتوى تلفزيوني، عمل في وسائل اعلام عربية ودولية. واكب تطورات المشهد الليبي بعد سقوط القذافي عن كثب، وعمل في وسائل اعلام ليبية، متخصص في الملف الليبي، ماجستير في العلوم السياسية.