أوكرانيا على طريق جورجيا
أقرب السيناريوهات لما يمكن أن تسفر عنه العملية العسكرية التي بدأتها القوات الروسية في أوكرانيا أمس هو سيناريو جورجيا 2008. في ذلك الوقت، واجه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مسألة إخضاع جورجيا التي كانت تنوي الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، مثل دول البلطيق الثلاث، لاتفيا وإستونيا وليتوانيا، التي استقلت عن الاتحاد السوفياتي السابق، ووجدت الطريق إلى حمايتها من أطماع روسيا من خلال العضوية في "الأطلسي"، وهذا ما عارضه بوتين في جورجيا، واستخدم منطقة أوسيتيا الجنوبية الموالية لموسكو رأس جسر، كي يقوّض سلطة الرئيس الاستقلالي الجورجي، ميخائيل سكاشفيلي، ويعيد جورجيا إلى بيت الطاعة الروسي. وتحدث السفير الروسي في مجلس الأمن، فاسيلي نيبينزيا، بعد بدء العملية العسكرية ضد أوكرانيا، إن بلاده تستهدف "الطغمة الحاكمة في كييف"، وهذا هدفٌ جديدٌ لم يسبق لموسكو أن طرحته بهذا الوضوح.
ويدرك بوتين أن عملية غزو أوكرانيا لن تكون سهلة، بل ذات مضاعفات كبيرة على اقتصاد روسيا وحضورها السياسي الدولي. ومع ذلك، أقدم عليها في ظل اختلال عسكري كبير في ميزان القوى العسكري الذي يميل لصالح موسكو. ولكن ليس بالحرب وحدها يمكن أن تُحسم النزاعات، وأوكرانيا ليست جورجيا. ومنذ اليوم، بات على روسيا أن تواجه مقاطعة اقتصادية وسياسية كبيرة من الولايات المتحدة وأوروبا، ولن تجد من يقف إلى جانبها من بين الأطراف الدولية المؤثرة، بما في ذلك الصين، التي بدأت، منذ عدة أيام، بإرسال إشارات صريحة، تعارض الغزو العسكري لأوكرانيا. وإزاء هذا الموقف المعقد، تبدو أوروبا في وضع صعب أكثر من غيرها، لأنها على تماسّ مباشر مع النزاع من جهة، وخصوصا الدول التي تحتفظ بحدود مع أوكرانيا، وعلى أراضيها قواعد وقوات أميركية، مثل بولندا ورومانيا. ومن جهة ثانية، ستكون القارّة العجوز المنطلق لأي تحرّك دولي لمواجهة الغزو الروسي، وهذا سوف يفرض تحدّيات دفاعية واقتصادية وسياسية كبيرة، كما أن على بعض دولها أن تواجه أزمةً في الطاقة، إلى حين تستطيع إيجاد بدائل للغاز الروسي.
تقوم بروباغندا بوتين على أن أوكرانيا وقعت في شرك "لعبة جيوسياسية" لتحويلها إلى جدار عازل بين أوروبا وآسيا، وساحة حربٍ لمواجهة روسيا، وهو ما لن تقبله موسكو. وتبدو هذه الحجة واهية، مثل المخاوف من تمدّد حلف الناتو إلى حدود روسيا، لأنه حين ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014 لم تتذرّع بالتهديدات الأطلسية. وفي مقال كتبه الرئيس الروسي، بوتين، في يوليو/ تموز الماضي، بشأن الأصول التاريخية المشتركة للشعبين، الروسي والأوكراني، اعتبر أنهما "شعب واحد، وكيان متكامل واحد". وكان يرد فيه على تصريحات لنظيره الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في نهاية يونيو/ حزيران الماضي، إن شعبَي البلدين ليسا "شعباً واحداً". وأعاد الرئيس الروسي إثارة هذه القضية في خطابه مساء الاثنين الماضي، ليضع سياقا يبرّر الاعتراف بالجمهوريتين الإنفصاليتين في شرق أوكرانيا، ويوقّع معهما اتفاق تعاون دفاعي، يبيح لروسيا دخول قواتها إلى أراضيهما. وفي حقيقة الأمر، لا يعترف بوتين بأوكرانيا التي تمرّدت على روسيا في فبراير/ شباط 2014، وثارت ضد الرئيس الموالي لموسكو، فيكتور يانكوفيتش، وهو يعتبرها من أفكار "الحقبة السوفياتية"، ولكنه لا يعارض انفصالها شريطة "أن تخرج بالحدود نفسها التي دخلت فيها إلى الاتحاد السوفياتي"، وبذلك تسقط حقها في شبه جزيرة القرم التي أعلن الزعيم السوفياتي، نيكيتا خروشوف، تحويل تبعيتها الإدارية من روسيا إلى أوكرانيا عام 1954، وما يجري من عمل عسكري روسي ضد أوكرانيا هو تطبيق لهذه المزاعم التي يهدف منها بوتين إلى اقتطاع حوالي ثلث مساحة أوكرانيا، وضمّها للجمهوريتين الانفصاليتين، وتدجين الدولة الأوكرانية الجديدة.