أوكرانيا تعمّق شروخ العلاقة الروسية الإيرانية
بمقدار ما كشفت أزمة أوكرانيا حجم المصالح التي تربط حلفاء واشنطن في المنطقة (السعودية والامارات وإسرائيل ومصر) بروسيا، فإنها سلّطت في المقابل الضوء على التصدّعات العميقة في علاقة "الشريكين"، الروسي والإيراني. ويعد عزوف إيران عن تأييد موقف روسيا في الحرب على أوكرانيا، وامتناعها عن التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2 مارس/ آذار الجاري، الذي دان الغزو الروسي وطالب بإنهائه، بدلا من التصويت ضد القرار، كما فعل الحلفاء (سورية، وإريتريا، وبيلاروسيا وكوريا الشمالية)، فضلا عن إبداء إيران استعدادها لتزويد أوروبا بالغاز وتعويض أي نقصٍ محتمل في الإمدادات الروسية، وامتعاضها أخيرا من محاولات روسيا تعطيل مفاوضات إحياء الاتفاق النووي، يعد امتدادا لتاريخ طويل من عدم الثقة بين البلدين، حجبه زواجٌ اضطراريٌّ دفعهما إليه العداء الأميركي، وتوافق مصالح ظاهر في عدد من الملفات الإقليمية. والواقع أن من كان يُنصت جيدا لا بد أنه كان يسمع، بين حين وآخر، وإن بصوتٍ خافت، تذمر إيران من استخدام روسيا لها ورقةَ ضغط ومساومة في علاقتها المعقدة مع الغرب. ولم تكتفِ روسيا بالسماح بفرض عقوباتٍ قاسيةٍ في مجلس الأمن على طهران، بل صوّتت إلى جانب جميع القرارات ضدها بشأن برنامجها النووي (القرارات 1737 لعام 2006، و1747 لعام 2007، و1803 لعام 2008، و1929 لعام 2010). كما امتنعت موسكو في عام 2010، مراعاة لواشنطن، عن تنفيذ التزاماتها المتعلقة بتزويد طهران بمنظومة صواريخ "إس - 300" على الرغم من تسديد قيمتها البالغة 800 مليون دولار، ولم تتسلّم إيران هذه المنظومة إلا عام 2016، وقد قدّمت بسبب ذلك دعوى قضائية إلى محكمة التحكيم في باريس، طالبت فيها موسكو بتسديد أربعة مليارات دولار غرامة لعدم التزامها تنفيذ العقد الموقع بين الطرفين. كما رفضت روسيا على الدوام الطلب الإيراني المتكرّر بصيانة الغواصات الإيرانية التي كانت ستُمنح لإيران، في حال إعادة تأهيلها، مناورة عسكرية واسعة في الخليج العربي والمحيط الهندي. بالإضافة إلى ذلك، ماطلت موسكو زهاء عشر سنوات لإنهاء بناء مفاعل بوشهر النووي وتشغيله، بعد أن ظلت تستخدمه أداةً للمساومة مع الغرب. ولا شك أن إيران شعرت بـ "طعنةٍ" عندما استولت روسيا على حصتها السوقية بعد تبنّي إدارة الرئيس ترامب سياسة صفر تصدير للنفط الإيراني عام 2019. تاريخ العلاقة المعقدة هذا يستدعيه تيارٌ في طهران لا يثق بالروس، ويدعو إلى استغلال أزمتهم الراهنة للرد على أسلوب تعاملهم مع إيران.
أما الروس، فلديهم هواجسهم أيضًا تجاه السياسات الإيرانية، إذ تساورهم شكوكٌ عميقةٌ عن مساعي إيران امتلاك سلاح نووي، وهم يشاطرون الغرب معارضتهم أي توجّه من هذا القبيل. فوق ذلك، يسري اعتقاد واسع بين المسؤولين الروس بأنّ طهران سوف تبادر إلى الاستغناء عنهم في اللحظة التي تنفتح فيها آفاق التعاون مع الغرب، وخصوصًا الولايات المتحدة؛ فقد أبدت روسيا، مثلا، امتعاضًا شديدًا بسبب إقصائها عن المفاوضات السرّية التي كانت تجري بين واشنطن وطهران في سلطنة عُمان عامي 2012 – 2013، وأدت إلى التوصل إلى اتفاق جنيف المرحلي بشأن البرنامج النووي الإيراني. كما يبدي الروس شكوكًا متزايدة حاليا تجاه فتح مسار ثنائي بين أميركا وإيران بعيدًا عن أعين مجموعة 5+1 التي تشارك في مفاوضات فيينا حول برنامج إيران النووي. ولا ينسى الروس، بطبيعة الحال، أن إيران كانت شرطي الولايات المتحدة وحليفها الرئيس في منطقة الخليج وغرب آسيا بين عامي 1953 - 1979، وقد وصف وزير الخارجية الأسبق، هنري كيسنجر، خسارتها عام 1979 بأنها أكبر نكسة استراتيجية تعرّضت لها الولايات المتحدة خلال سنوات الحرب الباردة. فوق ذلك، لا يبدو خافيا أنّ الطاقة هي أحد أهم أسباب تسارع مفاوضات إحياء اتفاق عام 2015 النووي مع إيران، وأن الهدف من ذلك هو استكمال محاصرة روسيا وعزلها بعد غزو أوكرانيا، وأن إيران لن تتردّد في استغلال هذه الفرصة لعرض بضاعتها على الغرب.
سوف يُفضي على الأرجح الإحياء الوشيك لاتفاق إيران النووي إلى افتراق كبير في المصالح بين روسيا وإيران، وستكون لذلك ارتدادات إقليمية ودولية مهمة. بدأ هذا المسار مع وصول إدارة بايدن إلى الحكم عام 2021، لكن أزمة أوكرانيا سرّعت الوصول إلى نتائجه المتبلورة الآن.