أوكرانيا تؤخّر ولادة "نظام عالمي جديد"
بغضّ النظر عن النتيجة التي ستفضي إليها الحرب الدائرة في أوكرانيا، على أهميتها، كشفت المسألة تهافت مقولاتٍ كثيرة سبقتها عن دخول النظام الدولي طور التحوّل من نظام أحادي القطبية إلى نظام متعدّد الأقطاب، أو حتى عديم الأقطاب. مقولة أننا نقف على أعتاب نظام عالمي جديد تنحدر بمقتضاه القوة الأميركية، وتبرز قوى جديدة على الساحة الدولية تزاحمها السيادة على العالم، أخذت تبرُز مع تعثر التدخلات العسكرية الأميركية بعد أحداث "11 سبتمبر" في 2001، خصوصا في العراق وأفغانستان. وكان المسؤول السابق في وزارة الخارجية الأميركية، ورئيس مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، ريتشارد هاس، أول من أشار إليها في مقال نشره في مجلة فورين أفيرز عام 2008 بعنوان "عصر اللاقطبية: ماذا بعد أفول الهيمنة الأميركية؟"، توقع فيها نهاية عصر القطب الواحد، الذي يعد، بحسب هاس، أقصر عهد هيمنة في التاريخ (1991-2001).
منذ ذلك الوقت، تصاعدت المؤشرات التي تسند هذه المقولة، ومنها الأزمة المالية التي ضربت الولايات المتحدة عام 2008، ودفعتها إلى الانسحاب من العراق، تاركة وراءها حطام بلد غارق في الفوضى، وتراجع موقع الولايات المتحدة في النظام الاقتصادي الدولي (انكمشت حصّتها من الناتج العالمي والتجارة الدولية بمقدار النصف منذ مطلع الستينيات من القرن الماضي)، وبروز قوى جديدة أخذت تفرض نفسها على الساحة الدولية اقتصاديا وسياسيا، وحتى عسكريًا، مثل الصين التي غدت ثاني اقتصاد في العالم، وروسيا التي استغلت الإنهاك الأميركي في العالم الإسلامي للعودة الى الساحة الدولية عبر سلسلة تدخلات في جورجيا وأوكرانيا وسورية وغيرها. وأعطى الانقسام الداخلي في أميركا، وميلها إلى الحدّ من تدخلاتها الخارجية، بما في ذلك للدفاع عن حلفائها في منطقة الخليج، وانسحابها الفوضوي من أفغانستان ذخيرة إضافية لأنصار مقولة الانتقال نحو عهد دولي جديد.
ولكن حرب أوكرانيا أسقطت، وبطريقة صادمة، كل مقولات انتهاء عصر الهيمنة الأميركية والانتقال نحو عالم متعدّد الأقطاب، فالطريقة التي أدارت بها واشنطن المعركة لمواجهة الغزو الروسي لأوكرانيا والسرعة والقوة التي تحرّكت بهما، أثبتت مقدار السطوة التي ما زالت تتمتع بها في النظام الدولي، مع اتخاذها قرارا بإفشال الغزو الروسي، وتحويله إلى هزيمة استراتيجية للرئيس بوتين. سياسيا ودبلوماسيا، تمكّنت واشنطن خلال أيام من حشد حلفائها، كما لم تفعل منذ الغزو العراقي للكويت عام 1990، لتعزل موسكو على الساحة الدولية، وتمكّنت، اقتصاديا، من فصل دولة كبرى، بحجم روسيا، عن النظام المالي العالمي، عبر سلسلة من العقوبات غير المسبوقة. أما عسكريا، فقد استطاعت واشنطن حشد مائة ألف جندي على حدود حلف الناتو مع روسيا خلال وقت قصير نسبيًا، وأعطى التفوّق الكبير للأسلحة الأميركية التي تدفقت على أوكرانيا مؤشّرا آخر عن حجم الفجوة التي تفصل واشنطن عن أقرب منافسيها، إذ تمكّنت صواريخ "جافلين" من إيقاع خسائر فادحة بسلاح الدبابات الروسي، العمود الفقري للقوة العسكرية الروسية، في حين تمكّنت صواريخ "ستينغر" من تحييد سلاح الجو الروسي في المعركة، رغم أن واشنطن قدّمت أجيالا قديمة منها فقط.
فوق ذلك، كشف الأداء الصادم للقوات الروسية، سواء لجهة الخطط التي اعتمدتها، أو الفعالية القتالية المتواضعة لها، أو الفشل في تأمين الاحتياجات اللوجستية من وقود ومؤن وغيرها، في مواجهة قوة أضعف منها بكثير، المستوى الحقيقي لهذه القوات التي تريد قيادتُها أن تنافس في السيادة على العالم.
أماطت الأزمة اللثام أيضا عن وزن الصين الحقيقي على الساحة الدولية، وعن تهافت مقولات اقتراب حلولها محل الولايات المتحدة قوةً عظمى عالمية، فبالإضافة إلى صدمتها من طريقة إدارة واشنطن معركة أوكرانيا والإذلال الذي لحق بروسيا هناك، بدت بكين عاجزة تمامًا عن مدّ يد العون لحليفها الروسي. وأمام التفوّق الغربي الكاسح اقتصاديا وتكنولوجيا وعسكريا، يبدو أن الصين سترضى، في أزمة أوكرانيا، من الغنيمة بالسلامة. هذا يعني أنه ما زال هناك شوط طويل يفصلنا عن ظهور نظام عالمي متعدّد الأقطاب. المشكلة التي تواجهنا هنا هي كيف نقنع المتحمسين لظهور نظام دولي جديد بهذه النتيجة، وبأن انتصار روسيا والصين، فيما لو حصل، لن تكون نتائجه بالنسبة لنا أقلّ سوءا من استمرار الهيمنة الأميركية التي إن حصلت ستكون فقط بفعل عوامل داخلية.