"أوبنهايمر" ومأزق العلماء اليهود الأخلاقي
بعد نجاح فيلمه "دنكيرك"، يعود المخرج الأميركي - البريطاني، كريستوفر نولان، إلى أجواء الحرب العالمية الثانية عبر فيلم "أوبنهايمر"، من دون أن يحيد عن المقاربة الهوليوودية التي تتناول هذه الحرب من منظور صراع مَانَوي بين الخير الذي تشخّصه أميركا وحلفاؤها والشرّ الذي تجسّده ألمانيا النازية وباقي دول المحور. فلم يتناول مُخرجو هوليوود من هذه الحرب إلا ما يمجّد المنتصرين، ويشيطن أعداءهم المنهزمين، ويحذف الحقائق التي تشكّك في مصداقية سرديات تقوم على تبسيط التاريخ، وتتمركز حول أميركا وملاحمها الهوميرية.
استند نولان إلى سيرة العالم الأميركي روبرت أوبنهايمر (1904 – 1967) كما دوّنها كاي بيرد ومارتن شيرون في كتابهما "بروميثيوس أميركا". يفتتح أوبنهايمر الفيلم بهذه الجملة التي تلخص قصة إله النار، بروميثيوس، في الأساطير الإغريقية: "لقد سرق بروميثيوس النار من الآلهة ووهبها للبشرية، ثم دفع ثمناً باهظاً". وتروي الأسطورة أنّ زيوس، كبير آلهة الأولمب، قد ترك بروميثيوس مغلولاً ينخُر النسر كبده كل يوم، عقاباً على سرقته النار وتقديمها هدية لبني البشر ليخرجوا من الكهوف، ويشقّوا بها طريق التقدّم والحضارة. لكن شتّان بين أسطورة بروميثيوس وحقيقة أوبنهايمر.
يفتتح نولان الفيلم بمشهد درامي بالأبيض والأسود، يبدو فيه أوبنهايمر (كيليان مورفي) هزيلاً، شاحباً، مصدوماً وصامداً بِصمته وهو يواجه أعضاء هيئة الطاقة الذرية في جلسات استماع عقدتها عام 1954 للنظر في علاقاته الشيوعية السابقة ورفضه القنبلة الهيدروجينية، لتخلُص إلى تأكيد إلغاء التصريح الأمني الذي كان يخوّل إليه الاطلاع على الأسرار العسكرية للحكومة والإدلاء برأيه بشأنها. تكمن سخرية الفيلم في حبكته الدرامية التي تدور حول "مأساة" فقدان أوبنهايمر السلطة التي كان يستمدّها من التصريح الأمني، وتخفي عن أنظار المشاهدين المأساة الحقيقية لضحايا قنبلته النووية.
فيلم نولان طويل ومُرهق لشدة سرعة إيقاعه، يغلب عليه الحشو والإفراط في كلّ شي
وفقاً لقواعد الصناعة الهوليوودية التي تجمّل القبيح وتلطّفه، نظّف نولان الفيلم من صور الضحايا اليابانيين، واختزل الجريمة التي أشرف عليها أوبنهايمر في ضوءٍ ساطعٍ وقطع دقيقة متناثرة في الفضاء على خلفية موسيقى صاخبة، وجدلٍ حول عدد الموتى وأوصاف مقتضبة لمعاناتهم. أبعد ما ذهب إليه نولان في استحضار آثار القنبلة الجهنمية جاء في شكل مشاهد تجريدية تمرّ في ومضة ضوء، يتخيّل فيها بطل الفيلم ما يوحي بجثة متفحّمة ملتفّة عند قدميه، ووجه امرأة بيضاء يتقشر جلدها وهي تصفق لنجاح القنبلة.
فيلم نولان طويل ومُرهق لشدة سرعة إيقاعه، يغلب عليه الحشو والإفراط في كلّ شيء، إذ يعجّ بعشرات الشخصيات العلمية، والسياسية والعسكرية، ويزدحم بأحداث تتأرجح بين الحب والحرب، وينتقل باستمرار بين أمكنة وفضاءات تمتد من أوروبا إلى أميركا، ويتنقل بالمشاهد بين عدة أزمنة تدور حول ثلاث روايات رئيسية يسردها نولان على نحو لا خطّي ومتشظٍّ يقفز بين الماضي والحاضر: قصة صنع القنبلة النووية (1945)، وجلسات استماع هيئة الطاقة الذرية إلى أوبنهايمر (1954)، وجلسات اللجنة الاقتصادية في الكونغرس (1958) للحسم في ترشيح المدير السابق لوكالة الطاقة الذرية لويس ستراوس (روبرت داوني جونيور) وزيراً للتجارة.
كان بإمكان نولان الذي يهوى السرديات المعقّدة اختزال الفيلم في ساعتين لو استغنى عن جلسات الاستماع إلى ستراوس الذي بالغ في أهميته ليرسّخ صورة السياسي الشرير الذي لطّخ سمعة أوبنهايمر وأطاحه. بتركيزه على ستراوس ومن تآمر معه من أعضاء الهيئة، مرّر نولان صورة العالِم الضّحية التي يدور حولها الفيلم.
يُبرز الفيلم شيئاً من أنانية أوبنهايمر وتعاليه ودونجوانيته، ثم يجمّل شخصيته عبر استحضار دعمه الجمهوريين في الحرب الأهلية الإسبانية ونقابات العمال، ومخالطته شخصياتٍ من اليسار الشيوعي الأميركي، وإعجابه بفرويد وماركس وبيكاسو. حاول نولان رسم شخصية مركّبة، تعيش حالة صراع داخلي دائم بين الشرّ والخير ينتهي بانتصار الأخير عبر صحوة ضمير تحيل إليها ثلاثة مواقف: تراجعه عن قتل أستاذه في جامعة كامبريدج بواسطة تفّاحة حقنها بمواد كيميائية سامة، وندمه على انتحار عشيقته المصابة بالاكتئاب بعدما رفض مساعدتها، وندمه على صنع القنبلة النووية، رغم أنه شارك السياسيين في اختيار إلقائها على سكان هيروشيما وناغازاكي واليابان على وشك الاستسلام.
لا يبدو أنّ أوبنهايمر كان صادقاً في ندمه وخطاباته الداعية إلى الحدّ من انتشار السلاح النووي، بدليل أنّه شارك في بلورة مشروع السلاح النووي الإسرائيلي
يبدو من خلال النجاح التجاري للفيلم أن نولان قد وفّق في جلب تعاطف الجماهير مع أوبنهايمر، والإعجاب به باعتباره بطلاً خارقاً بدلاً من بُغضه والسخط عليه، فقط لأنّه ندِم على ما اقترفه في حقّ الإنسانية. لكنّ السردية الهوليوودية بعيدة كل البعد عن تاريخ بداية السلاح النووي الذي لم يتوقّف أبداً على شخص أوبنهايمر، بل على عشرات العلماء اليهود الذين بلوروا مشروع السلاح النووي الأميركي وأشرفوا على تنفيذه. عن هذا الدور، يقول أول رئيس لإسرائيل، حاييم وايزمان، في مذكراته: "قلة قليلة من الناس لديها فكرة عن الدور الذي لعبه اليهود في العلوم الحديثة، بخاصة دورهم المذهل في تطوير الفيزياء النووية... لقد سمعت أينشتاين يتحدث عن تسعين بالمائة... إنني مندهش باستمرار من هذه المساهمة اليهودية المفرطة بشكل مطلق".
بدافع الانتقام من ألمانيا وسياساتها النازية التي تسبّبت في هجرتهم نحو بريطانيا وأميركا خصوصاً، شكّل كبار علماء الفيزياء النووية "لوبي" علمياً نووياً في أميركا، قاده ألبرت أينشتاين شخصياً. انطلق المشروع النووي اليهودي برسالة وجّهها أينشتاين في 2 أغسطس/ آب 1939 إلى الرئيس الأميركي روزفلت؛ كتبها العالم ليو زيلارد، بالتعاون مع إدوارد تيلر ويوجين فيغنر، تحذّر من أنّ ألمانيا قد تكون بصدد تطوير سلاح نووي، وتحثّ الرئيس على اقتناء اليورانيوم وتسخير الموارد المالية والبشرية اللازمة لتكون أميركا سبّاقة إلى تطوير هذا السلاح. شهرة أينشتاين ووفرة العلماء اليهود الراغبين في صنع القنبلة ورغبة واشنطن في الهيمنة على العالم، جعلت أميركا تُغدق ملياري دولار على أزيد من 400 موظف على مدى ست سنوات.
قد لا يعود اختيار أوبنهايمر لقيادة "مشروع مانهاتن" لصنع القنبلة النووية لعبقريته، وإنما لترويجه، أكثر من غيره، بعبع القنبلة النووية النازية. في أغسطس/ آب 1943، أي بعدما تخلّت الحكومة النازية عن مشروع السلاح النووي، ردّد أوبنهايمر أنّ الألمان، بحلول نهاية العام ذاته، قد يحصلون على ما يكفي لصنع العديد من القنابل النووية قد يلقون بها على أميركا وبريطانيا والاتحاد السوفييتي. وكان خطاب الترهيب عاملاً حاسماً في سباق الآلة العلمية مع الزمن؛ آلة كان اليهود عقلها المدبّر والجهاز المنفّذ، إذ أشرفوا على إدارة 20 دائرة في "مشروع مانهاتن" وهيمنوا على دائرة الأبحاث النووية في المشروع ذاته الذي جمع فيزيائيين منحدرين من ألمانيا والمجر وبولندا وبريطانيا والدنمارك وآخرين ولدوا في أميركا. وكان أشهرهم إدوارد تيلر، يوجين وينر، ليو زيلارد، فيكتور ويسكوف، ماكس بورن، جيمس فرانك، هانز بيته، أوتو فريش، نيلز بور، إيزادور رابي، ريتشارد فاينمان، يوجين رابينوفيتش، جوزيف روتبلات.
قد لا يعود اختيار أوبنهايمر لقيادة "مشروع مانهاتن" لصنع القنبلة النووية لعبقريته، وإنما لترويجه، أكثر من غيره، بعبع القنبلة النووية النازية
عن خطورة الدور الذي لعبه العلماء اليهود في تطوير السلاح النووي، يقول الزعيم الصهيوني وايزمان، الذي كان مهووساً بحصول إسرائيل على السلاح النووي حتى قبل تأسيس "الدولة": "إذا بلغت الحماقة البشرية مرحلة ستُستخدم فيها الطاقة النووية على نطاق واسع في الحرب المقبلة التي يدور حولها الحديث كثيرا، فسيقال إن اليهود قد تآمروا على تدمير العالم". ويعكس هذا التصريح المأزق الأخلاقي الذي وضع اليهود أنفسهم فيه، خصوصا بعدما اتضح أن الموقف الأخلاقي للعلماء الألمان، غير اليهود، قد ساهم في فشل مشروع التسلح النووي النازي، حسب مؤرّخين عديدين. ويجسّد هذا الموقف فيرنر هايزنبرغ، العالم الألماني المسيحي الحائز على جائزة نوبل لعام 1932، الذي يُعتبر أبا "الفيزياء الكوانتية"، وعلماء جنّدهم الجيش الألماني أيضا في إبريل/ نيسان 1939 للعمل على مشروع يُعرف بـ"نادي اليورانيوم". كان العلماء الألمان سبّاقين إلى اكتشاف الانشطار النووي، فكان من الطبيعي أن يُطلب منهم التحقّق من إمكانية استخدام الطاقة الناتجة عن هذا الانشطار لأغراض عسكرية، لكن كبارهم عارضوا سرّاً الانخراط في مشروع بهذه الخطورة وعملوا على تعطيله. يقول هايزنبرغ إنه، إلى جانب العالمين النوويين أوتو هان وفون لاوي، قد حرَّفوا الحسابات الرياضية لتفادي تطوير القنبلة النووية، وأصدروا تقريرا لا يشجّع على صنع القنبلة النووية، دفع الحكومة النازية إلى التخلّي عن فكرة السلاح النووي في 1942، فانتقل المشروع من ذخائر الجيش الألماني إلى مجلس أبحاث الرايخ، وعمل هايزنبرغ وزملاؤه على بناء مفاعل اختبار نووي صغير لأهداف مدنية. وفي 1941 كان قد التقى هايزنبرغ العالِم اليهودي نيلز بوهر في كوبنهاغن، ليؤكّد له أن العلماء الألمان لا يسعون إلى تطوير أسلحة نووية، ويكتفون بالعمل على الطاقة النووية لأغراض سلمية. لم تلقَ رسالة هايزنبرغ الأخلاقية آذاناً صاغية لدى بوهر الذي سيلتحق بـ"مشروع مانهاتن" النووي، وسيتحوّل موضوع لقائهما إلى جدل حول سمو الموقف الأخلاقي للعلماء الألمان تحت النازية، ولا أخلاقية نظرائهم اليهود الذين ورّطوا أميركا والعالم في معضلة السلاح النووي.
جعل موقف هايزنبرغ وغيره عدة علماء يهود يجهرون بندمهم، وكان أولهم أينشتاين الذي تحوّل من عرّاب السلاح النووي إلى مناهض له. ففي مقال نُشر في مجلة نيوزويك، الأميركية، عام 1947 بعنوان "الرجل الذي بدأ كل شيء" نُقل عنه قوله: "لو علمتُ أنّ الألمان لن ينجحوا في صنع قنبلة نووية، لما حرّكت ساكناً وقتها". كذلك كان موقف صديقه زيلارد الذي ساهم في اختراع المفاعل النووي وتطوير القنبلة النووية، ثم أصبح أحد أكبر الدعاة إلى تنظيم استعمال الأسلحة النووية. وندم نيلز بوهر أيضاً الذي عمل في "مشروع مانهاتن" مع ابنه آجي، ثم سعى لاحقاً إلى الحدّ من انتشار الأسلحة النووية. تصريحات متأخرة ومواقف تتأرجح بين الندم والنفاق ولا تعني الكثير، بعدما خرج المارد من القمقم وهشّم الزجاجة. تأنيب الضمير، وإن كان صادقاً، لا يغفر خطايا علماء أسلحة الدمار الشامل.
أما أوبنهايمر، فلا يبدو أنّه كان صادقاً في ندمه وخطاباته الداعية إلى الحدّ من انتشار السلاح النووي، بدليل أنه شارك في بلورة مشروع السلاح النووي الإسرائيلي. فحسب الكاتب مارك زيميرمان وغيره، لقد وضع خطط بناء المحطة النووية الإسرائيلية في أميركا علماء يهود عملوا في مشروع مانهاتن، بمساهمة أوبنهايمر الذي لم يتم الكشف عن دوره إلا بعد وفاته في 1967. كما كان متوقعاً، لم يُشِر الفيلم إلى هذه الحقيقة التي تُعرّي نفاق أوبنهايمر وتصحّح مغالطاته الهوليوودية، وتُفسِد شطحات نولان على رؤوس الثعابين. الخطير في صناعة هوليوود السينمائية أنّها تغتصب التاريخ وتغتال الحقيقة بالصورة والأسطورة.