"أوبنهايمر" ... الثرثرة تهزم السينما
دعْك من أنه كلّف مائة مليون دولار، فكثيرٌ منها صُرِف أجورا عاليةً للمخرج والممثلين والتقنيين، وحتى لو كلّف ضعف هذه المائة فلا يصنَع أمرٌ كهذا جودةً مضافةً فيه. ودعْك من أن أداء أغلب الممثلين فيه كان ممتازا وبارعا، فذلك صحيح، لكنه لا يجوز أن يعدّ ميزةً كبرى في مُنتج هوليودي، اشتركت فيه قدراتٌ وكفاءاتٌ عالية، فضلا عن أنك قد تقع في أفلام شديدة التواضع، مصرية وأميركية وهندية، على أداءٍ فاتنٍ لممثلين ذوي مواهب كبيرة. ودعْك من أن تقنياتٍ مُبهرةً استُخدمت في بعض مشاهده وفي تقطيعاته، فذلك، وإنْ له اعتبارُه، من نوافل معهودةٍ في أعمال مشهديةٍ أميركيةٍ ذات موازناتٍ عالية، ويُنجزها أهل خبرةٍ وكفاءةٍ، وأهل موهبةٍ من قبلُ ومن بعد. ...، دعْك من هذا كله، وابحث عن الإيحاء والكثافة، الجاذبيّة والمتعة، الاتّساق والانشداد الذي يُحدِثه عملٌ شائقٌ حقا، لا زوائد فيه ولا ثرثرة، ولا فائض من تفاصيل لا إضافة خاصّة فيها ولا ميزة. انظر إلى التعبير الفني الذي يتوازى فيه الشعوريّ والجوّاني مع الخارجي.
هذا الاستهلال عن فيلم "أوبنهايمر" الذي يُشاهَد في العالم حاليا، للمخرج البريطاني الأميركي، كريستوفر نولان (53 عاما)، صاحب الموهبة الخلّاقة في عدّة أعمال له، منها "دنكيرك" (2017)، الذي أعطى فيه للسينما مفرداتِها التي يعرفها ويعرّفنا بها، وأمكن له هناك تحقيق معادلة الفُرجة مع المتعة، والمضمونِ القويّ مع الأداء البديع، وكثيرٍ مما غاب في الفيلم الجديد الذي استسهل عديدون وصفَه تُحفة. والراجح أن سطوة اسم المخرج الكبير، والموهوب حقّا، وراء المدائح الضافية التي استرسلوا فيها. ومع تسليمه بجودةٍ ظاهرةٍ في مواضع غير قليلةٍ في الفيلم، إلا أن صاحب هذه المقالة لا يحمل السلّم بالعرض عندما يجهر هنا بأن السينما كانت قليلةً فيه، وأن طوله ثلاث ساعات لم يكن نقيصة فيه، وإنما التطويل الذي فيه، فلم نكن سنراه طويلا لو شاهدناه أربع ساعات إذا كان مُحكما ومشدودا، (لنتذكّر أننا لم نملّ لمّا شاهدنا "ران" و"الإمبراطور الأخير" مثلا). لقد عانى "أوبنهايمر" من الثرثرة الفائضة، في المشاهد في قاعاتٍ وغرف وممرّات ومكاتب وجلسات تحقيقٍ واستجواب، بكثرةٍ أحدثت إملالا ضاغطا ومُربكا، حيث شكوكٌ ومؤامراتٌ وشبهاتٌ ومساءلاتٌ وخطابيات، وذلك كلّه لنعرف أن عالم الفيزياء الكميّة، روبرت أوبنهايمر، الذي يعود إليه بناء القنبلة الذرّية في الولايات المتحدة عند نهايات الحرب العالمية الثانية كان عرضةً لاتهامات مرتابةٍ منه، في أوساطٍ عريضةٍ في النخبة الأميركية النافذة.
لا أتعالم على مخرجٍ من طراز كريستوفر نولان لو ذهبتُ هنا إلى أن استغراقَه في تفاصيل التفاصيل في هذا الأمر أضعف فيلمَه كثيرا، فصيّره أقربَ إلى البيان الاحتجاجي، السياسي الثقافي (؟)، على حساب شروط السينما الجذّابة الكثيفة الموحية. والظن هنا أن صاحب "بين النجوم" أراد أن يكون وفيّا لكتاب سيرة عن أوبنهايمر (أصدره صاحباه في 2005)، اقتبس منه الفيلم وأفاد منه، وكان في وُسعه أن يتخفّف من كثيرٍ من مشاهد الثرثرة تلك (شخصيات ازدحمت بها بلا ضروراتٍ فنية)، ويذهب إلى مساحات الكآبة الحادّة والشعور بالخذلان التي أقام عليها العالم الشهير في أواخر حياته القصيرة (توفي في 1967 عن 63 عاما بعد مرضه بسرطان الحلق)، وإن جرت تبرئتُه من الشّبهات المصطنعة ضدّه، عن علاقاتٍ سوفييتيةٍ له وميول يسارية فيه، وقد كرّمه الرئيس جونسون واستقبله الرئيس جون كينيدي، في ردّ اعتبار له ولمكانته.
إلى هذا، تزيّد من كتبوا إن الفيلم نجح في تصوير صراعٍ غالَبه أوبنهايمر في نفسه بعد استخدام القنبلة النووية في قصف المدينتين اليابانيتين، هيروشيما وناغازاكي، وقتل آلاف المدنيين فيهما. لم يصل إليّ شيءٌ من هذا في مشاهدتي الفيلم المملّ، الذي أفادنا عن معارضة العالِم إنتاج القنبلة الهيدروجينية، وعن ميلِه إلى عدم السباق مع الاتحاد السوفييتي في السلاح النووي. أوحى الفيلم بمساءلة الفيزيائي الشهير نفسَه، في بعض المواضع، وهذه هي حدود الحال ولا يتجاوزها. وكان المشهد الأجمل في الفيلم (هل هي مبالغة؟) جلسة أوبنهايمر (أدّى الدور الإيرلندي كيليان مورفي) متضائلا مهزوزا بعض الشيء مع الرئيس ترومان (غاري أولدمان) الساخر المزدهي بنفسه، في إيحاءٍ بتغلب السياسيين على العلماء.
أصاب الناقد أمير العمري لمّا كتب إن كريستوفر نولان أفسد بيدِه فيلمَه الذي لا يضيف شيئا، وكثيرا ما تشعُر بأنه لا يُطاق. والقول عندي إن الثرثرة هزمت السينما في فيلمٍ يمكن عدّه، بتحفّظ، جيدا، وليس أكثر.