أوبنهايمر ... أبو الندم النووي
تُقدِّم شخصية روبرت أوبنهايمر نموذجاً جليّاً لفعل شيءٍ وتبنّي نقيضه. هو المُدرك كونه ابناً عاقّاً للحياة وأباً عبقرياً للموت. يعمل بحماس البنّائين القدامى، في النّهار، على القنبلة النّووية، وفي العتمة يتآكله القلق من آثارها. هو أيضاً مثالٌ لسذاجة لا تليق بمستواه المعرفي، فهو مثقّف لا عالِم مُغرِق في عالمه التجريدي. دفعته الأيديولوجيا "الوطنية" إلى أن يكون أسوأ من الذين تُحاربهم بلاده. فصنع سلاحاً مدمّراً آملاً أن يكون وسيلة سلام، ثم تقلّب في هوّة ضميره، لمساهمته في قتل مئات آلاف من المدنيين اليابانيين، لإنقاذ أرواح آلاف من الجنود الأميركيين. هذا السّلاح عمّق دور أميركا في الحرب العالمية الثانية، بكبرياء من سيُنهي الحرب في لمْح البصر، فأطلقت قنبلةً قد تكون نهاية البشرية، بنسبةِ أمانٍ مشكوك فيها.
وضعنا كريستوفر نولان في فيلم "أوبنهايمر" في قلب العملية التي صارعت الزّمن لإفناء عشرات آلاف من الناس، الذين استيقظوا وهم لا يعلمون أنّه بعد ساعات سيتم حرقهم وسلخهم أحياء من أجل إنهاء الحرب. هل من بشاعةٍ أكبر من هذه؟ مع العلم أن قصف اليابان ميناء بيرل هاربر الذي سبب الهلع للأميركيين كان يتوجه إلى هدفٍ عسكري، معظم الموجودين فيه جنود. ولم يستهدف أحياء سكنيّة ولا مُدناً جزافاً، عكس القصف الأميركي الساحق.
ما من شيء منعش للضمير أكثر من التحوّل إلى ناشط معاد للقنابل النووية، بعد أن تصنع واحدة، هي الأولى من نوعها. من باب قتل القتيل والمشي في جنازته. وهو ما تكرّر بشكل أقوى، مع مهندس القنبلة الهيدروجينية للاتحاد السوفييتي، أندريه ساخاروف، بعد أربع سنوات، والتي كانت أقوى بمراحل من سابقتها الأميركية، فقد أدّت الرجّات الناشئة عن التفجير إلى اهتزازاتٍ متتاليةٍ في الكرة الأرضيّة، وفقا للإعلام السوفييتي. وأشارت هيئة المسح الجيولوجي الأميركية إلى أن انفجار القنبلة ولّد إشارات زلزالية كبيرة دارت حول الأرض ثلاث مرّات. توافق ساخاروف مع أوبنهايمر بشدّة على محاربة السّباق النووي، هو ما جلب له نقمة النّظام السوفييتي. لكنه لم يستسلم، بل وسّع نشاطه السّياسي ليشمل الحقوق والحريات بأكملها، حتى نال جائزة نوبل عام 1975.
في سينما "ألكازار"، وسط المدينة القديمة لطنجة، كنتُ أشاهد الشّباب اليانع الجالس حولي صامتاً ثلاث ساعات. أمام فيلم ليس بفيلم إثارة ومطاردات، لا يضم مشاهد ساخنة ولا فرفشة، ولا قصّة مستوحاة من ألعاب إلكترونية، أو شخصية خارقة خارجة من الكوميكس ... وكل ما يُقال إنّه محل اهتمام شباب اليوم. بل يدور حول الفيزياء الكمّية، كواليس صنع القنبلة النووية، الصّراعات السياسية، التحقيق المسهب في أفكار بطل الفيلم ومبادئه. كثيرون منهم لا يعرفون معنى "الشيوعية"، ولا يفهمون هذه الحرب ضد فكرةٍ ذنبها أنها معارضة للحياة الأميركية، التي هي إيديولوجية مغلقة شمولية بطريقتها الخاصة. فالكون، حسب هوليوود، حتى في فيلم من إخراج بريطاني، يدور حول الإنسان الأميركي، هو مركزه والغاية الأسمى له. لكن نولان لم يمدح مع ذلك وجهة نظر الأميركان، وكان أعلى مستوى للحبكة تسليطُ الضّوء على الانتقال من استهداف هتلر بالقنبلة النووية إلى اليابان، فأظهر حزن المتورّطين في صناعة القنبلة وأساهم على وفاة هتلر: فما فائدة صناعة قنبلة موجّهة إلى رجلٍ ميت؟ ما يعني أنها كانت سلاح كبرياء لإركاع أكبر طاغية في العصر الحديث، أكثر منها سلاحاً عسكرياً شاملاً. مات الملك عاش الملك. مات هتلر، لنقصف اليابان. حتى لو كانت عدوّاً أقلّ قَدراً، وقصفه سيجلب مجداً أقل.
هل هؤلاء الشباب المهتم بالفيلم، فعل ذلك متأثّرا بالحملة التّرويجية الهائلة التي قدّمت الفيلم بأنّه من بين الأعظم في تاريخ السينما؟ لكن لماذا بقوا ساكنين ثلاث ساعات؟ أُقر أنّني توقعتُ خلال ثلاث ساعات الفيلم، لعباً في الهواتف، دردشاتٍ على الهامش، دخولاً وخروجاً مستمرّين ... لا شيء من ذلك حصل. بل ساد الصمت تحت وطأة انتباه شديد لحوارٍ كثيفٍ لا يكاد يستقر، مع المونتاج المكثف، الذي حاول المخرج عبره الإحاطة بخيوط كثيرة، لحدثٍ يمثّل تقلب الشّخصية الأميركية المعاصرة، بين عقدتي التفوّق والذنب.