أن يواجه قادة "حماس" لائحة اتّهام أميركية مشبوهة

16 سبتمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

فوجئ الجمهور الأوسع بإعلان المُدَّعي العام الأميركي، مطلع سبتمبر/ أيلول الحالي، لائحة اتّهام تنطوي على سبع تهم جنائية موجّهة إلى ستّة من قادة حركة حماس، الأحياء منهم (خالد مشعل، ومحمّد الضيف، ويحيى السنوار، وعلي بركة) والمتوفين (إسماعيل هنيّة، ومروان عيسى)، شملت تهم التآمر لاستخدام أسلحة دمار شامل، أدّت (أو قد تُؤدّي) إلى الوفاة. ولافت للنظر أنّ اللائحة تتحدّث عن إسرائيل والإسرائيليين، وعن الولايات المتّحدة ومواطنيها الأميركيين، لا سيّما حين يربط المدّعي العام الاتهامات بما حدث في 7 أكتوبر (2023). واتّهم المُدَّعي العام "حماسّ بأنّها مسؤولة عن اغتيال أميركيين عديدين، وأنّها (على نحو خاص) اغتالت في ذلك اليوم 1200 شخص من بينهم 40 أميركياً، بالإضافة إلى اختطاف مئات من المدنيين، وأنّ مقاتليها "اغتالوا عائلات كاملة"، و"اغتالوا المُسنّين والأطفال، واستخدموا العنف الجنسي سلاحاً ضدّ النساء". ويلاحظ أنّ لائحة الاتهام نُشرِت بعد أيّام قليلة من عثور قوّات الاحتلال الإسرائيلي على جثامين ستّة أسرى كانوا في عهدة "حماس"، بينهم مواطن ذو جنسية مزدوجة إسرائيلية أميركية، وادّعى المُدَّعي العام أنّ "حماس" قتلت الضحايا المذكورين. وهدّد الرئيسُ الأميركي جو بايدن "حماس" بأنها "ستدفع ثمن هذه الجرائم".

تتحدّث لائحة اتهام المُدَّعي العام الأميركي "حماس" عن إسرائيل والإسرائيليين كما تتحدّث عن الولايات المتّحدة ومواطنيها

من الواضح أنّ هذه الاتهامات تخضع أوّلاً للقانون الأميركي، ولا علاقة للقانون الدولي بها، لا سيّما أنّ الولايات المتّحدة ليست طرفاً في ميثاق المحكمة الجنائية الدولية، وأنّها تتقصّد ملاحقة أموات (وهذا شاذ كلّيةً)، ذلك أنّ اثنَين من المُتَّهمين هما في عداد الموتى، إلّا إذا قصد المُدَّعي العام احتجاز جثامين الموتى (إذا استطاع) اتّباعاً للممارسة الإسرائيلية التي ما زالت سبب احتجاز مئاتٍ من جثث الشهداء الفلسطينيين، وتربط لائحة الاتّهام التهم الموجّهة بأحداث "7 أكتوبر"، وكأنّها وقعت في الأراضي الأميركية. أمّا إذا كانت حميّة المُدَّعي العام الأميركي تحرّكت بسبب أنّ أحد الضحايا الذين عثرت قوات الاحتلال على جثامينهم كان أميركياً، فهذا ليس سبباً مُقنِعاً، ذلك أنّه يمكن النظر إلى الأمر من أربع زوايا على الأقلّ: الأولى تقوم على افتراض أنّ الضحية كان مُقاتِلاً مزدوج الجنسية، فإن كان من حَمَلة الجنسيتين الإسرائيلية والأميركية، فإنّ حركة المقاومة تستهدف قوّاتٍ مسلّحةً (على افتراض أنّ المقاومة سبب الوفاة)، ولا تفحص هُويَّات أفراد القوّات المسلّحة المُستهدَفة مسبقاً، كما أنّ لحركة المقاومة الحرّية المطلقة في استهداف عدوّها، طالما هو يحمل السلاح في مواجهتها، ولا يستطيع الأميركي الإسرائيلي أن يختار الجنسية التي يقاتل تحت علمها متى أراد وحينما يشاء، ولا يحقّ للولايات المتّحدة أن تهرع الآن لحماية مواطن أميركي اختار أنّ يُضحِّي بحياته في سبيل دولة أخرى غير وطنه الأمّ.
أمّا إذا كان مستوطناً، فإنّه هدف مشروع للمقاومة، شأن الجندي المُقاتِل، ولا يمكن اعتباره مدنياً، ذلك أنّ الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن وضع قاعدةً لم تعترض عليها أيّ دولة، فأصبحت قاعدةً قانونيةً عرفيةً، تسمَّى في القانون الدولي "قاعدة الرحلة المُستمرّة"، إذ كانت بريطانيا ترسل (أو تغضّ النظر) متطوّعين إنكليز يأتون لدعم قوّات الولايات الجنوبية، التي ثارت على الحكومة الشرعية في الشمال، ولكن المتطوّعين كانوا في البداية يأتون بحراً إلى الكاريبي، ومن هناك ينتقلون إلى الولايات الأميركية الجنوبية، وطلب لينكولن من البحرية الأميركية إغراق السفن التي تحملهم، ورفض اعتبارهم مدنيين، ذلك أنّ رحلتهم لم تنته في الكاريبي، بل استمرّت حتّى الانضمام إلى المتمرّدين، أيّ أنّ مقصدهم النهائي القتال ضدّ الحكومة الشرعية، ولم تعترض بريطانيا على تلك الممارسة. أمّا إذا كان الضحية سائحاً مدنياً غير عسكري، فإنّه باختياره دخل منطقة حرب، أي أخذ المخاطرة، وعليه أن يتحمّل نتائجها. إنّ أيَّ سائح أجنبي دخل ساحة الحرب أيّام حرب فيتنام أو حرب أفغانستان يدرك تماماً المخاطر التي عليه أن يتحمّلها إذا ما أُصيب بأذىً. وهنا ندرك أنّ الصحافي الحربي يلبس عادةً ملابسَ خاصّة تميّزه من غيره، حتّى لا يُستهدَف (إلّا إذا دخل منطقة عسكرية إسرائيلية). وبالمناسبة، لم يسبق لكاتب هذه السطور أن قرأ عن سياحة أميركية في فيتنام أو في أفغانستان، ولن يكون مقبولاً من الحكومة الأميركية التدخّل لحماية سائح أميركي دخل منطقةَ نزاع مسلّح وهو يعلم ذلك، كما أنّها لا تتدخّل عادة لحماية الصحافي الأميركي الذي يرغب في تغطية حرب ما.
أمّا إذا كان الضحية من المرتزقة، ورغم أنّه قد يحمل جنسيةً مزدوجةً، فإنّ المرتزقة لا يتمتّعون بحماية قانونية أو دبلوماسية، فهم مأجورون، وهذا النوع من المقاتلين لا تحميهم القوانين الدولية. ونذكّر أنّ مقاتلي "بلاك ووتر"، المرتزقة الذين استأجرتهم وزارة الدفاع الأميركية لقتل أهلنا في العراق، لم يدخلوا ضمن قائمة القتلى الأميركيين، حتّى إنّ المرتزقة الذين يقاتلون حالياً في صفوف جيش الاحتلال الصهيوني لا يُدرَجون في قوائم قتلى الجيش.
فوق ذلك كلّه، ليس ثابتاً أنّ حركة المقاومه الإسلامية هي التي نفّذت عملية القتل، كما تزعم لائحة الاتهام وكما يزعم بنيامين نتنياهو، والبيّنات الظرفية تدحض هذه المزاعم، ذلك أنّ المقاومة تتمسّك بالأسرى لكي تدعم موقفها التفاوضي مع إسرائيل، وهذه هي ورقتها القوية، وبالتالي لا يُعقَل أن تُدمِّر المقاومة الورقة التي بيدها. ويمكن القول إنّ التجارب السابقة مع الأسرى الإسرائيليين كانت ناصعةَ البياض، وقد شاهدنا كيف تعاملت حركة المقاومة مع أسراها منذ جلعاد شاليط، حتّى الذين لا يزالون في قبضتها، ولا يزال من أُفرج عنهم يثنون على سلوك عناصر المقاومة النظيف.
ومن الطريف أنْ يُلاحِظ المُراقب أنّه إذا بادر المُدَّعي العام الأميركي فجأة إلى تحريك دعوى ضدّ المُتَّهمين من قيادات "حماس"، بسبب مقتل شخص أميركي، فلماذا لم يتنفض أحدٌ في مكتب الادّعاء العام الأميركي حين قُتِلت شيرين أبو عاقلة، وهي تحمل الجنسية الأميركية، أم أنّ لون شعرها وبشرتها لا يشيران إلى أنّها بيضاء بما فيه الكفاية، كما لون بشرة آخر ضحيّة؟ كما أنّ وزارة الخارجية الأميركية لم تدن إسرائيل لقتلها عائشة نور تركية الأصل وأميركية الجنسية. هل هناك أميركي وأميركي في القانون يا زينب؟ وبينما قال المُدّعي العام إنّ هناك 40 أميركياً سقطوا ضحايا في محرقة غزّة، فلماذا لم يتحرّك إلّا حين أُعلِن مقتل آخر ضحية؟! هل هناك مزاعم تكشف عنها الإدارة الأميركية بالتدريج، على طريقة الذئب الذي وجد حملاً رضيعاً، واتّهمه بأنّ أمّه أساءت إليه في الماضي؟!
من الثابت أنّ هناك مقاتلين و/ أو مستوطنين و/ أو مرتزقة و/ أو مزدوجي الجنسية من 16 جنسية يقاتلون حالياً في صفوف قوّات الاحتلال، ومن الطبيعي أن ينتمي هؤلاء إلى 16 دولة، ولا بدّ أنّ أحدهم قُتِل أو جُرِح، فلماذا لم يصب بالحميّة والغيرة الوطنية إلّا المُدَّعي العام الأميركي؟... نتوقّع جواباً لا يليق بالسذاجة المُعتادة مثل الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان.

اقتصرت عمليات "حماس" على الأراضي الفلسطينية المحتلّة، ولم تمارس أيّ أنشطة مقاومة خارج فلسطين

من غير اللائق لمُدَّعي عام دولة عظمى أن تكون أسبابه التي يسوّقها في لائحة اتهامه لا تتّفق و"عظمة" الدوله التي يمثّلها. فهو يلاحق قادةَ المقاومة لأنّهم "اغتالوا المُسنّين والأطفال واستخدموا العنف الجنسي سلاحاً"، هذه مقولة يُردِّدها نتنياهو، وردَّدها خلفه الرئيس الأميركي مثل الببّغاء. ولا بدّ أنّ المُدَّعي العام لديه ما يثبت مزاعمه، إلّا أنّه سيكون في وضع مُحرِج إذا دُحِضت هذه المزاعم من مصادر أكثر انحيازاً للصهيونيه منه مثل "نيويورك تايمز"، التي اعتذرت عن ترداد الاتهامات نفسها من دون تبصّر وتحقيق. طبعاً هناك تقارير أممية أكثر مصداقيةً وحياديةً من تلك الصحف الأميركية التي تصاب بالعمى حين يتعلّق الأمر بحرب على الشعوب الملوّنة مثل الشعب الفلسطيني.
زعم المُدَّعي العام أنّ المُتَّهمين تآمروا لقتل أميركيين ولتهديد الأمن القومي الأميركي. إنّ مثل هذه المزاعم تُدلّل على عدم فهم منطلقات حركة حماس، فهي، ومنذ اليوم الأوّل لنشأتها في العام 1987، اقتصرت عملياتها على الأراضي الفلسطينية المحتلّة، وهي بخلاف بعض أجنحة حركة فتح العسكرية، وأجنحة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، لم تمارس أيّ أنشطة مقاومة خارج فلسطين. وليس غريباً، بل إنّه أمر مشروع، أن تستهدف قوّات المقاومة كلّ من يقاتل في صفوف جيش المستوطنين، أميركياً كان أو عربياً. وقواعد القتال تبيح ذلك بلا تحفّظ. ولا بدّ من تذكير المُدَّعي العام بأنّ هناك المئات من الأميركيين في صفوف قوّات الاحتلال الإسرائيلي، ويمارسون الإبادة، وآلاف من المستوطنين الذين يمارسون الإرهاب على شعبنا الفلسطيني، ولديهم (الأميركيون) المعلومات كلّها التي تُؤكّد ذلك، وهم جميعاً أهداف مشروعة للمقاومة.
لائحة الاتهام التي يُقدّمها المُدَّعي العام الأميركي لم تفاجئ أحداً، ذلك أنّ الانحياز الرسمي الأميركي إلى حملة الإبادة الصهيونية على الشعب الفلسطيني أصبح أكثر وضوحاً منذ اندلاع محرقة غزّة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023. ومن يُشكِّك في ذلك عليه أن يرصد (على سبيل المثال) مسعى الرئيس الأميركي بايدن لوقف إطلاق النار، الذي مضى عليه 11 شهراً تقريباً وهو يحرث في مياه غزّة.

B5EDC405-262D-42F2-B033-214788D28B72
B5EDC405-262D-42F2-B033-214788D28B72
أنيس فوزي قاسم

خبير فلسطيني في القانون الدولي، دكتوراة من جامعة جورج واشنطن، رئيس مجلس إدارة صندوق العون القانوني للدفاع عن الأسرى الفلسطينيين

أنيس فوزي قاسم