أنك هنا... في البترا
عرّفَ صديقنا الباقي أمجد ناصر نفسه لملك إسبانيا (السابق) خوان كارلوس، في حفل استقبال، في مدريد ربما، بأنّه شاعرٌ أردني، فعقّب الملك عليه: لديكُم في الأردن مدينة جميلة اسمُها البترا،... فحدّث أمجد نفسَه بأنه شعَر بحرجٍ، لأنه كان سيُخبر الملك بأنه لم يزُر البترا، ثم لم يفعل. ولكن أمجد زار فيما بعد أكثر من مرّة المدينة المحجوبة، كما استطابَ واحدةً من أسماء البترا، وكتب نصّاً شعرياً، ومقالات بديعة، عنها من وحي مشاهداته فيها، وأشهر، كما كثيرين غيره، فتنتَه بمدينة التعاويذ والحيطان التي من صخْر... ذلك الحرج القديم لدى المواطن الأردني أمجد ناصر يُلازمني، أنا المواطن الأردني أيضاً، كلما أخبرني أصدقاء عرب عن زياراتهم البترا ودهشتهم بها، فيما لستُ مثلهم. وكثيراً ما كتمتُ هذا عمّن تحدّثوا إليّ عن مشيهم في السيق، وعن حملقات عيونهم في الخزنة، وفي فضاءات المدينة التي صارت من عجائب الدنيا السبع الجديدة في 2007. تيسّر لي، أخيراً، أن أفعلَها، وأبيت هناك ليلة، مع وفدٍ من إعلاميين عرب، استضافتنا سلطة إقليم البترا التنموي السياحي، ووفّرت لنا جولةً في أكناف المدينة الغريبة المُلغزة، وبين أنفاس صخورها ورمالها، وفي صحرائها، وما صنعه الأنباط فيها من معالم دلّت على ما كانت عليه حضارتُها من تقدّمٍ علميٍّ وهندسي. وبذا، صار لي أن أدفع عنّي ذلك الحرج المديد.
كنّا محظوطين أن نلقانا هناك ليلاً، وحدَها شموعٌ تضيء المكان المُهاب، قدّام الخزنة التي جاء إليها اسمُها هذا من الفراعنة، أمام الأعمدة الأعجوبة، المتطاولة، وصوتُ نايٍ يشجو به زمّارٌ موهوب، ونحتسي شاياً قيل لنا إنه بدوي. كنّا محظوظين أن نعود أصبوحة اليوم التالي، يشرَح لنا ما كنّا مأخوذين به مما نرى دليلٌ سياحي، ممتلئٌ بالفرح، يتقن التباسط مع الزوّار والجائلين من كل جنسيات الأرض، فنّان في الإيضاح والإيجاز، وهو يحيل إلى غموضٍ كثيرٍ لم ينكشف بعد عن البترا والخزنة فيها. كنّا محظوظين عندما خصّنا مسؤول عارف في متحف بترا (افتُتح في 2019، وبُني بدعم ياباني) بتعريفنا بالذي جالت فيه عيونُنا، النقوش والتماثيل والأقنية والمعادن والنقود والأسلحة والأردية، وغير ذلك كثير مما دلّ على حياة بشرٍ في المنطقة، منذ آلاف السنين، وقد تعاقب بعد الأنباط الذين دخلت قبائلهم جنوبي الأردن في القرن السادس قبل الميلاد، رومانٌٌ وبيزنطيون ومسلمون. وليس محسوماً أن الأنباط هم من بنوا البترا، والمؤكّد أنهم اتّخذوها عاصمة مملكتهم التي امتدّت إلى شمال غرب الجزيرة العربية وشرق شبه جزيرة سيناء ومنطقة سهل حوران. وبرعوا في إدارة المياه وهندسة الري والحماية من الفيضانات بإقامة أنظمة مائية، عاينّا مساراتها وشيئاً من تفاصيلها في المكان الذي يبدو وحيداً، لولا الزوّار السائحون، الذين يفتشون عن الفاتن والغريب والعجيب، لكان في عزلةٍ، قد لا تُغاير كثيرا ما تُشيعه من إيحاءاتٍ لها فرادتها، كما التي أفضى بها الشاعر السير جون برغن في قصيدة عن البترا (زارها في 1845): "...، إلا أنها ابنةُ الصخور الساحرة/ وحيدة/ صامتة/ رائعة/ خالدة".
لم يفعل السويسري يوهان لودفيج بيركهارد عندما "اكتشف" البترا سوى أنه نزع عنها عزلتها في 1812، فكان أول أوروبي وصل إليها، ثم أذاع اسمَها، مدينةً من صخورٍ وجبال انبنى فيها معمارٌ مُعجز. وكان الشابّ الذي توفّي عن 33 عاما يقصد تمبكتو، في مهمّة لجمعيةٍ في لندن، ولمّا أراد العبور من العقبة إلى صحراء سيناء وجدَ نفسه هنا، حيث كنّا، والتقى ببدوٍ من سكاّن المكان. "صُعق" بما شاهد، ولم يكن يعلم عنه شيئا، وهو العارفُ بآثارٍ في الشام والعراق ومصر التي اكتشف، لاحقاً، في جنوبها، معابد أبو سنبل. كان كشفُه البترا مُغوياً لرحّالةٍ ومنقّبين ورُهبانٍ ومصوّرين وفنانين وأدباء ومؤرّخين تقاطروا إلى البترا ورسموا وكتبوا (لا تُنسى رواية أغاثا كريستي "موعد مع الموت" في 1938). والبترا بقدر ما تحتاج درْساً أكثر حفراً في تجاويف تاريخها، تحتاج مخيّلاتِ شعراء وساردين ورسّامين وخزّافين ونحّاتين. صنع المرحوم جمال أبو حمدان مسرحيةً رائقةً استيحاءً من سير ملوكها وملكاتها، وأنجز غيرُه، أردنيون وعرب وأجانب، أعمالاً عنها ومنها. وكان عظيم القيمة من رواق البلقاء (بإدارة خلدون الداود) إنجازه، قبل 14 عاماً، كتاباً ضمّ نصوصاً ولوحاتٍ ورسوماتٍ لمبدعين عربٍ وأجانب من وحي البترا، والحاجة إلى مثله باقيةٌ ودائمة، فالبترا تفيضُ بالإيحاءات وتستنفر المخيلات والقرائح، على ما استشعرتُ بأمّ العين.