أنشودة القربة المثقوبة
في ردّه على مقولة هيغل إن "التاريخ يكرّر نفسه مرتين"، يُنسب إلى ماركس قوله إن "التاريخ فعلا يكرّر نفسه مرتين ولكن مرة على شكل مأساة وأخرى على شكل مهزلة ونحن الآن نشاهد المهزلة". ويقال نقلا عن لسان أينشتاين ما معناه إن الغباء هو القيام بتكرار التجربة نفسها وانتظار نتائج جديدة، ويقول المثل الشعبي: "من يجرّب المجرّب فعقله مخرّب". وهناك عشرات وربما مئات المقولات عن هذا الأمر الذي ربما لا يختلف عليه اثنان، ونحن مثل بقية البشر نعترف بصحة هذه المقولات، ولكننا بخلاف الآخرين الذين يبحثون دائما عن الجديد، ويقومون بتحديث وتجديد أنفسهم ومجتمعاتهم وطرق الإدارة وكل تفاصيل الحياة الأخرى عندهم، بحثا عن الحلول التي تساعدهم في التخلص من مشكلاتهم التي أدّى إليها هرم أنظمتهم القديمة التي كانت ناجحة وذات جدوى يوما ما، نطالب بتكرار التاريخ عشر مرات على شكل مهزلة، فإن فشلت المهزلة لجأنا إلى المأساة لنكررها عشر مرّات قبل أن نعود لنكرّرها على شكل مهزلة مرّة أخرى، نمارس حياتنا كأبناء للقرن الواحد والعشرين بمظهرنا، ونعود بجوهرنا إلى العصور الوسطى مع أول تحدٍّ قد نواجهه يتطلب منا أن نقوم بتغيير في آليات تفكيرنا.
من السهل علينا القيام بمائة عملية جراحية لتعديل مظهرنا الخارجي، بدءا من تجليس الأنف المعقوف، وليس انتهاء بزراعة الصلعة بالشعر مرورا بشفط شحوم الكرش، وغير ذلك من العمليات التي تكلف مالا، وتتسبب بآلام كثيرة. ولكن من الصعب، وربما من المستحيل في بعض الأحيان، أن نتقبل الرأي الآخر، خصوصا إذا كان هذا الرأي يثبت خطأ راينا، أو إذا كان صادرا عن شخصٍ ليس له وزن اجتماعي، لأسباب طبقيةٍ أو لأسبابٍ عنصريةٍ أو لأسبابٍ تتعلق حتى بجنس صاحب الرأي، فكم من النساء وئدت آراؤهن فقط لأنهن نساء، وكم من المرؤوسين في الوظيفة تم نبذ آرائهم، لأنهم أدنى درجة من الغبي الذي يجلس على الكرسي، وكم وكم وكم. لا يخلو الأمر طبعا من فئةٍ تسعى إلى التجديد، ولكنها تواجَه بقسوة ورفض يجعل نتائج عملها تتأخر كثيرا، حتى تتجسد في الواقع ويتم الاعتراف بها.
هذا على المستوى الاجتماعي، أما على المستوى السياسي، فالأمر عندنا لا تنفصل فيه المأساة عن المهزلة، ويكون دائما على شكل تراجيكوميديا. وأعتقد جازما أننا في المستقبل سنشكل مادة كوميدية دسمة، تضحك بسببها الأجيال القادمة حتى تنقلب على قفاها، فمثلا لا شيء يضحك أكثر من طباعة صور الزعيم بملايين النسخ، لتعليقها على الحيطان، أو مثلا أن يرقص الجمهور احتفالا بانتخاباتٍ ليس فيها سوى مرشح واحد أو ما شابه من المساخر. يمكن القول إن الحزب أو القوة السياسية الداعية إلى التجديد، على سبيل المثال، شبه مبنوذة، وتكاد تكون بلا جماهير. أما الأحزاب التي تتكئ على الماضي، فلديها القوة على سحر قطاعات واسعة من الجماهير. تصل إلى السلطة فتتمسّك بها، كما يتمسّك الكلب بعظمة، وكذلك يفعل الزعيم الذي يتعامل مع الكرسي كتلك العظمة، ومع الخزينة كـ "عديم وقع في سلة تين".
هذه القوى السياسية وهؤلاء الزعماء يأتون إلى السلطة أصلا كقربة مثقوبة، وبما أنهم لا يترجلون عن ظهر ذلك الكرسي، فإنهم يجبرون شعوبهم على أن يمارسوا مدى الحياة عملية النفخ في هذه القربة المثقوبة، ولكونهم على عداء وجودي مع التجديد، فهم يمنعون حتى التفكير فيه، فما بالك إذا أرادت هذه الشعوب القيام به؟
سيؤدّي ذلك، بدون شك، إلى كارثةٍ، تودي غالبا بالشعوب العزلاء، مقابل السلطة المدجّجة. ولذلك سيستمر النفخ في القربة المثقوبة ربما قرونا، إذا لم يحدُث تغير استراتيجي على مستوى العالم، يحقق فرصة سانحة لفعل شيءٍ ما، الشيء الوحيد الذي سيبقى يتجدّد هنا هو إعادة انتخاب القربة المثقوبة في كل دورة انتخابية جديدة على إيقاع طبول العرس الانتخابي الديمقراطي الوطني، وتخريج دفعاتٍ جديدةٍ من الخبراء المختصين في نفخ القرب المثقوبة.