أمين معلوف ورجعية سؤال الأصل
تتضمّن السيرة الذاتية للروائي أمين معلوف، المولود في لبنان عام 1949، والذي عمل صحافياً في الملحق الاقتصادي لصحيفة النهار البيروتية، أنه هاجر للإقامة الدائمة في فرنسا منذ 1976، ثم شغل مناصب ومراكز عدّة تكللت اليوم بوصوله، كأول شخصية من أصول عربية، إلى منصب الأمين العام الدائم للأكاديمية الفرنسية.
هذا بعضٌ من سيرةٍ ذاتيةٍ يمكن أن تنطبق على أي مبدع هاجر من لبنان، منذ بدايات القرن العشرين، فلبنان هو البلد الذي لا يكفّ أهله عن الخروج منه، لعلهم بذلك يفتحون أمامهم طرق الإنتاج والإبداع والعيش الكريم. إنتاج وإبداع يسمحان للقوى والزعامات الطائفية التي هجّرتهم أن تحتفي به وبهم لاحقاً، لأنّ الإطار الثقافي والأيديولوجي والسياسي المهيمن في لبنان يقرّ بهذا الأمر، ويسعى إلى تحقيقه، ويكتب هذه المعادلة بحروفٍ من ذهب. إنه بلد الهجرة، بلد لفظ الأبناء والتنكيل بهم، بلد تهجير ما تبقّى من كفاءاتٍ تحت ضغط القمع والترهيب والمحاصرة، وصولاً إلى التصفية.
ما ليس مفهوماً إصرار اللبنانيين على التمسّك والتغنّي بكلّ فرد من أصول لبنانية حصل على جائزة أو منصب ما في الخارج، بمعزل عن أنه مهاجر منذ عقود كافية لتجعله خارجياً أساساً، أي غير لبناني، وليس مجرّد لبناني يمكن الاحتفاء بأصله الكامن خلف المنصب أو الجائزة. ثمّة إصرار عند قسمٍ لا يستهان به من اللبنانيين على تذكيره وتذكير أنفسهم بأنه يتحدّر من أصلٍ مشتركٍ معهم، وأنّ جزءاً من الكفاءة التي يتمتع بها تعود إلى هذا الأصل، بما يسمح بنشوء مساحة مشتركة تخوّلهم الاحتفاء به، والاستفادة من الأمر، وإنْ بشكل معنوي. لعلهم يستطيعون توظيفه في إشاحة النظر، وإن لحظاتٍ، عن الكارثة المستمرّة التي يعيشون فيها، والتي لا تكفّ عن القضاء عليهم، ودقّ الأسافين بينهم وبين السياق الحضاري السائد في عالم اليوم ومعادلاته الكونية.
الإنتاج والكفاءة يرتبطان بأصلٍ منفصلٍ عن السياق الحضاري الذي جرى الإنتاج والإبداع فيه
غريبة هذه المعادلة التي لا يتوقّف أصحابها عن محاولة رسم الحدود الفاصلة بين اللبنانيين وغيرهم في العالم، والأغرب هي الحاجة المستمرّة إلى طرح سؤال الأصل، بما يوحي بالركون إلى الماضي، لا المستقبل، لعلّ ذاك الأصل يكون كافياً ليسمح لهم بالتغنّي بشخصٍ لا علاقة لهم به، وبمواطن فرنسي لا تربطه بلبنان إلا بعض ذكرياتٍ انقطعت على تخوم الحرب الأهلية التي غيّرت كلّ الذكريات والسياقات. غريبة المعادلة التي لا يكفّ اللبنانيون عن إعادة إنتاجها لتفصل بين الفرد والسياق الفكري والثقافي والسياسي الذي أنتج فيه، والحاجة المستمرّة عندهم للتفكير في المهاجرين من لبنان، بوصفهم خارجين عن كل سياق وتاريخ، أي ككائناتٍ ماهويةٍ يشكّل انتقالهم من لبنان مجرّد توسّع لمساحة الوطن إلى خارج الحدود وما خلف البحار، على اعتبار أنّ الإنتاج والكفاءة يرتبطان بأصلٍ منفصلٍ عن السياق الحضاري الذي جرى الإنتاج والإبداع فيه، وعلى نسيان أن هذا السياق هو السبب الحاسم لكل إمكانية تسمح لهم بالتعبير والكتابة بحرية من دون أي حسابٍ لأي تداعيات.
لبنان اليوم مجرّد واحة معيقة، لأنه تحوّل مقبرة لكل الإبداعات التي تقبع تحت ثقل التقليدية والرجعية والطائفية والتسفيهية
ثمّة حاجةٌ مستمرّةٌ عند اللبنانيين، مع كلّ شخصية، إلى محاولة معالجة مَرَضيّة لهذا الجرح النرجسي الناتج عن تموضعهم في الدرجات الأخيرة من سلم السعادة والحضارة والإبداع العالميين اليوم، وهو ما يجري إشباعه بسلوكياتٍ لا تكفّ عمليات توظيفها عن محاولات البحث في تفوّق مزعوم على بقية الشعوب. لذلك تراهم يحاولون المستحيل لإثبات استمرارية علاقة أي فردٍ بأصله اللبناني، علّ ذلك يغذّي حاجتهم المستمرّة للفوقية وللإنجازية في عالم يعيشون على هامشه في أحد أكثر الأنظمة السياسية تأخّراً وتخلفاً، وفي واحدة من أكثر الثقافات رجعية وإعاقة لحرية الفكر والضمير، والتي هي الأيديولوجيا الطائفية. فمن جبران خليل جبران إلى أمين معلوف، مروراً بعشرات، لا بل مئات المفكّرين والكتّاب والمبدعين الآخرين، كان لبنان اللبنانيين على هامش عملياتهم الإبداعية وسياقاتها، لا بل كان خارج تلك السياقية الإبداعية ومفاعيلها، لأن مجمل مجالهم الإبداعي كان في سياقٍ مختلف، في دولة أخرى، في واحة فكرية ومساحة حرياتٍ تم القضاء على آخر مساحات مثيلاتها في لبنان، أي إن شروط السياقيّة اللبنانية غير قائمة ولا متبلورة فيها، وهو ما حدا بجبران، على سبيل المثال، إلى قوله الشهير: لكم لبنانكم ولي لبنان.
هذا اللبنان الخاص بجبران وأمين معلوف وأدباء المهجر ومبدعيه هو غير لبناننا القائم هنا واليوم، ولا علاقة لهم به إلا بالاسم. لبنان اليوم مجرّد واحةٍ معيقة، لأنه تحوّل مقبرة لكل الإبداعات التي تقبع تحت ثقل التقليدية والرجعية والطائفية والتسفيهية... إلخ. وهو ما لا يمكن ردم الهوة الناجمة عنه إلا بتحويل لبنان، هنا، إلى واحةٍ سياسيةٍ تحمي الحرّيات والمجالات الإبداعية والأفكار من خارج الصندوق. أما من يعيشون وينتجون في الخارج، فهم كانوا قد فتحوا نافذة لهم لم يكن لتتحقّق الاستفادة منها إلا على حساب إغلاق كل النوافذ الخاصة بمكان ولادتهم. هم قطعوا مع لبنان هنا. لذلك برعوا وأنتجوا لبنان متخيّلاً هناك. هم أصبحوا أشخاصاً آخرين، خلاصة ونتيجة حتمية لسياقٍ آخر لا علاقة له بأصل نتغنّى به اليوم للتغطية على حاضرنا المميت.