أميركا وعودة المضطرّ نحو أفريقيا
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
احتضنت واشنطن، من 13 إلى 15 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، القمة الأميركية الأفريقية الثانية، بمشاركة قرابة 50 وفدا، يمثلون بلدان القارّة السمراء، في أول قمّة من نوعها تعقدها إدارة الرئيس جو بايدن، إذ تعود الولايات المتحدة إلى أفريقيا، بعد قرابة ثماني سنوات من الغياب؛ فالرئيس السابق، دونالد ترامب، أول رئيس أميركي، منذ رونالد ريغان، لا يزور القارّة خلال ولايته. وتعود إدارة بايدن، بعد تسعة أشهر من التجاهل المطلق لأفريقيا، حاملة معها 55 مليار دولار إلى طاولة الحوار مع الأفارقة.
وجّه الرئيس الأميركي إدارته نحو التركيز على الحلفاء الأوروبيين أملا في تصحيح أخطاء الرئيس الجمهوري السابق، وعلى منطقة جنوب شرق آسيا، وفاء لسياسة سلفه الديمقراطي باراك أوباما، حيث تشتد المنافسة مع بكين. ولكن سرعان ما اكتشف أن الحضور الصيني في أفريقيا، وحتى الروسي وإنْ بدرجة أقل، مكلفٌ للغاية بالنسبة للمعسكر الغربي، خصوصا بعد التراجع البيَّن في نفوذ حلفاء واشنطن في أفريقيا، مثل فرنسا وبريطانيا، ممن باتوا غير قادرين على ملء الفراغ الأميركي. فحاولت تدارك الأمر، شهر أغسطس/ آب الماضي، بإعلان وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، من جنوب أفريقيا، عن استراتيجية جديدة بأربعة أهداف (دعم المجتمعات المفتوحة، الديمقراطية والأمن، الانتعاش الاقتصادي، التغيير المناخي) تجاه أفريقيا جنوب الصحراء.
عودة الولايات المتحدة إلى أفريقيا التي تحوّلت إلى مسرح عالمي كبير، تعمل قوى دولية وإقليمية جاهدة على صياغة دور لها من خلالها، أشبه بعودة المكره أو المضطرّ بحثا عن أهداف في الوقت بدل الضائع. فالمتأمل في جدول أعمال القمة يكتشف أن واشنطن أقدمت على مراجعة رؤيتها تجاه أفريقيا؛ فمن قارّة بلا أهمية استراتيجية، ولا عائد من الاقتران بها سوى المشكلات والأعباء، إلى قارّة الفرص والأمل والمستقبل، فالشراكة الكبيرة مع أفريقيا، حسب الرئيس بايدن، مفتاح النجاح للعالم، فـ"عندما تنجح أفريقيا تنجح الولايات المتحدة .. العالم كله ينجح".
تبدو الإدارة الأميركية مصمّمة على استعادة نفوذها داخل القارّة من المحور الصيني الروسي
يسعى بايدن جاهدا إلى استعادة الدور القيادي الأميركي في العالم، ويأمل تحقيق ذلك عبر بوابة أفريقيا، لذا طرحت إدارته، ولأول مرة، استراتيجية ببرامج متعدّدة، تستهدف عدة مجالات (الصحة، التغير المناخي، الأمن الغذائي، تحفيز الاستثمار، الطاقة المتجدّدة ...). عكس ما دأبت عليه إدارة رؤساء سابقين؛ فبوش الابن مثلا اختار محاربة الإيدز، وفضّل أوباما التركيز على مضاعفة إنتاج الكهرباء في القارّة. كما قدّم الرئيس للأفارقة وعودا نوعية، تمثلت في تعهّده بالدفاع عن تعزيز دول أفريقيا على الساحة الدولية، ناهيك عن تمثيلية رسمية للاتحاد الأفريقي في قمة مجموعة العشرين.
تطمح واشنطن بهذا العرض إلى إصلاح العلاقات الأميركية الأفريقية التي تضرّرت كثيرا، خلال فترة ترامب، وتدارك التقصير الذي طبَع النصف الأول من ولاية الرئيس بايدن، سيما بعد خيبة الأمل التي أصابتها، على خلفية الموقف الأفريقي شبه الموحد من الحرب الروسية الأوكرانية؛ حيث رفضت معظم الدول الانحياز للمحور الغربي، وتحفّظت على إدانة الهجوم الروسي، ما فتح أعين الأميركيين على حجم الهوة الفاصلة بينها وبين دول القارّة السمراء، التي اتسعت في السنوات الأخيرة، لتبلغ ذروتها مع جائحة كورونا، بسبب الإحباط الناتج عن عدم التزام الولايات المتحدة تجاه القارّة السمراء.
تبدو الإدارة الأميركية مصمّمة على استعادة نفوذها داخل القارّة من المحور الصيني الروسي، الذي ما انفكّت تحذّر الأفارقة من تداعياته الاقتصادية (الصين) والعسكرية (روسيا)، إلى درجة التفريط أو التنازل عن "دعم الديمقراطية" الذي يعد من ثوابت السياسة الخارجية الأميركية، حيث قبلت مشاركة قادة زعماء أفارقة مستبدّين، أمثال: رئيس غينيا الاستوائية تيودور أوبيانغ (أقدم رؤساء أفريقيا) الذي وصفت واشنطن إعادة انتخابه، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بالمهزلة، والرئيس الأوغندي يوويري موسيفيني الذي ينهي، بمتم ولايته الرئاسية السادسة، أربعة عقود في الحكم.
يجدُر بقادة القارة الأفريقية استغلال أجواء التنافس بين القوى الكبرى حولها
صحيحٌ أن واشنطن رفضت دعوة زعماء كل من السودان وبوركينا فاسو وغينيا ومالي، لكونهم لا يتمتعون بشرعية ديمقراطية، فالإدارة الأميركية ترى أنظمتهم عسكرية انقلابية. يبقى هذا الضابط محلّ جدل كبير، فضمن المشاركين في القمة رؤساء وصلوا إلى الحكم عن طريق الانقلاب، أو انقلبوا على الدستور، مثل المصري عبد الفتاح السيسي والتونسي قيس سعيّد، أم أن الأمر أضحى أداة لتمييز حلفاء البيت الأبيض من خصومه، فقادة أغلب الأنظمة المستثناة من حضور القمّة، في نظر الغرب، موالية لروسيا.
حماسة الولايات المتحدة نحو القارّة، باختتام أشغال القمة بالإعلان عن التخطيط لاستثمار 55 مليار دولار في أفريقيا، في غضون ثلاث سنوات، وإنشاء منصب ممثل رئاسي خاص للتنسيق بشأن تنفيذ مخرجات القمة، يُسند إلى الخبير في الشؤون الأفريقية، السفير السابق جوني كارسون، تقابل بتوجّس وحذر من الأفارقة، فالقمة بالنسبة للعقل الأفريقي بمثابة اختبار صدق نيات، ومدى مصداقية واشنطن، هذه المرّة، في التعاون مع أفريقيا. وقد حاول الرئيس السنغالي، ماكي سال؛ الذي تتولى بلاده رئاسة الاتحاد الأفريقي، إيصال هذه الرسالة إلى المعنيين في الإدارة الأميركية، عند حديثه لوسائل إعلام أميركية بقوله: "لن نسمح لأحد بأن يخبرنا ألا نعمل مع هذا أو ذاك... عندما نتحدّث غالبا لا يستمع إلينا أحد، أو، في كل الأحوال، لا يستمعون بما يكفي من الاهتمام".
يجدُر بقادة القارة الأفريقية استغلال أجواء التنافس بين القوى الكبرى حولها؛ فالصين حريصة، منذ عام 2000، على انعقاد منتدى التعاون الصيني الأفريقي. وشهدت تونس، قبل أشهر، أشغال الدورة الثامنة لقمة تيكاد، بين أفريقيا واليابان. واحتضنت بروكسل مطلع العام الجاري، القمة الأفريقية الأوروبية السادسة. وحالت أجواء الحرب دون تنظيم القمة الروسية الأفريقية هذا العام. وهذا كله يجعل السياق مناسبا لإعلان القطيعة مع منطق المقايضة والابتزاز الجاري به العمل مع بلدان القارّة، لصالح شراكة تحقق حاجيات القارّة السمراء أولا، فيد الأفارقة يجب أن تكون ممدودة نحو أي شراكةٍ يربح فيها الجميع.
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.