أميركا قبل الانتخابات في خانة الضعف الخارجية
كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.
تواجه الإدارة الأميركية تحدّيات كبيرة في مناطق عديدة، لعلّ الحرب الروسية الأوكرانية باتت في مراتب متأخّرة بعد التطورات في الشرق الأوسط، إثر الحرب الإسرائيلية على غزّة. ما يلفت النظر في معادلات الصراع الراهنة عمليات عضّ الأصابع المتبادلة بين أطرافٍ دولية وأخرى إقليمية، وأنّها تؤثّر، بشكل كبير، على مسار الانتخابات الرئاسية الأميركية التي ستؤثر نتيجتها، في المقابل، كثيراً على مسارات الأحداث العالمية أربع سنوات مقبلة. ثمّة من يرى في الحرب استثماراً أميركيّاً قبل الانتخابات، وهذا أمرٌ قد تلجأ إليه الإدارة الأميركية الحالية، إذا ما انسدّت الآفاق بوجه مرشّحها الرئيس الحالي، جو بايدن، لكنّ مسار تعامل الإدارة الديمقراطية منذ عهد أوباما مع الصراعات المختلفة لا يرجّح هذا الاحتمال، فمجمل السياسة الأميركية منذ سنوات عدّة سبقت الانسحاب من أفغانستان يدلّ على انحسار الشهيّة الأميركية لخوض الحروب.
إيرانياً، ثمّة ضغطٌ كبيرٌ ممارسٌ على الإدارة الأميركية الحاليّة بهدف انتزاع أكبر قدرٍ ممكن من التنازلات قبل الانتخابات المرتقبة. تُحرّكُ إيران أدواتها في لبنان وسورية لمناوشة إسرائيل بحجّة مناصرة الفلسطينيين، وتُطلق العنان لمليشياتها في العراق واليمن لقصف القواعد العسكرية الأميركية واستهداف السفن التجارية في باب المندب. لكنّ هذا الضغط سلاحٌ ذو حدّين، فهو يقوّي حجج المنافس الجمهوري في مواجهة الحزب الديمقراطي الذي تبنّى منذ عهد أوباما سياسةً أكثر انفتاحاً على إيران. ومن شأن فوز ترامب في الانتخابات وعودته رئيساً للولايات المتحدة أن يفاقم من حصار النظام الإيراني، ويشدّد الخناق عليه في برنامجه النووي وفي تمدّده في الإقليم كله. لن يتورّع ترامب عن دعم حكومة إسرائيلية يمينية متطرّفة في حربٍ قد تشنّها على إيران، حتى من دون اتفاقٍ مسبق معه. تهدف التحرّشات الإيرانية للاستثمار في الفوضى العارمة السائدة في الشرق الأوسط بل والعالم، لكنّ أثرها يبقى محدوداً نظراً إلى وجود لاعبين أقوياء في الساحة. أثبت الردّ الباكستاني الكبير والصارم حجم القوّة الإيرانية، فنظام الملالي يسعى إلى نقل الصراع بأدواته المختلفة خارج حدود إيران، فإذا ما اندلعت على أرضه عاد إلى حجمه الطبيعي.
من مصلحة القيادة السعودية عودة ترامب إلى البيت الأبيض، فهو براغماتي إلى درجة أنّه يعفي نفسه من تصنّع الوعظ الأخلاقي والإنساني لحكّام الدول الأخرى
روسياً، هناك تقدّم على الصعيد العسكري في الحرب على أوكرانيا، وهذا متوقّعٌ مع طول فترة الحرب وبدء تضعضع الحلف الغربي المناصر لأوكرانيا وانشغال الأميركيين بإسرائيل وبانتخاباتهم الرئاسية. أثبت التاريخ أنّ الروس لم ينهزموا هزيمة نهائية في أي حربٍ ضدّ الأوروبيين، حتى وإن كانوا خاسرين تجاههم في أي تنافس صناعي أو تجاري أو معرفي أو علمي. ومن مصلحة روسيا دعم التحرّشات الإيرانية بالأميركيين أينما وُجدت، فلا يُستغرب أن تيسّر لهم تزويد الحوثيين بتقنياتٍ جديدة وبمعلومات استخبارية مهمّة لاستهداف السفن الأميركية والبريطانية. كذلك يمكن لروسيا أن تلعب دوراً مهماً في تغطية الإيرانيين عسكرياً وسياسياً حتى في تحرّشات وكلائهم في العراق وسورية ولبنان. إنّ من مصلحة بوتين عودة صديقه الشخصي ترامب إلى سدّة الرئاسة، لأنّ من شأن ذلك أن يثبّت له ما أنجزته قواته العسكرية في أوكرانيا سياسياً من خلال وقف الحرب ضمن اتفاقٍ يضمن المطالب الروسية بحدّها الأعلى. سيكون على الأوروبيين تدبّر أمر عداوتهم التي خرجت عن كل معقول لروسيا، فمقاطعة الغاز الروسي ووقف التجارة البينية وكل أشكال التعاون، حتى الثقافي والرياضي منه، ليست مجرّد وسيلة للضغط عليها من أجل وقف الحرب، بل هي تصعيدٌ خطيرٌ سيضرّ أوروبا أكثر من روسيا. لقد تخطّت أوروبا أحد أهمّ مقدّساتها الرأسمالية المتمثلة بصيانة رأس المال من أي حرب. من شأن مصادرة الأصول الروسية في أوروبا كقفزة كبيرة في المجهول أن تهزّ الثقة بالنظام الرأسمالي ذاته.
سعودياً، ثمّة نزوعٌ واضحٌ إلى مزيد من الاستقلالية في القرار، ترى المملكة أنّ دخولها في حروبٍ مباشرة أو بالوكالة مع أي طرفٍ سيؤدي إلى تعثّر مشروعها الريادي في الشرق الأوسط. لقد تعلّم السعوديون درساً قاسياً من حرب اليمن، فلا قدرة لدى الجيوش النظامية على هزم المليشيات، وتجربة السوفييت والأميركان في أفغانستان خير دليل على ذلك، وجاءت التجربة السعودية لتؤكد هذا المذهب. من مصلحة القيادة السعودية عودة ترامب إلى البيت الأبيض، فهو براغماتي إلى درجة أنّه يعفي نفسه من تصنّع الوعظ الأخلاقي والإنساني لحكّام الدول الأخرى. بعودته يمكن استكمال مشاريع كثيرة توقفت مع قدوم الديمقراطيين، من بين ذلك العودة إلى مشروع صفقة القرن، وقد تكون لهذا المشروع روافع اقتصادية قوية بالتعاون بين الهند والسعودية وإسرائيل. تمثّل جوهر صفقة القرن بدفن القضية الفلسطينية، لكنّ "طوفان الأقصى" أزاح الستار عن جولات جديدة من الصراعات والحروب، وأعاد القضيّة إلى واجهة الأحداث العالمية.
التنافس العالمي اليوم على أشدّه مع تخلّق نظام دولي جديد متعدد الأقطاب من رحم النظام العالمي وحيد القطب الذي كان أميركياً
التنافس العالمي اليوم على أشدّه مع تخلّق نظام دولي جديد متعدد الأقطاب من رحم النظام العالمي وحيد القطب الذي كان أميركياً بامتياز منذ انهيار المعسكر الشرقي. ثمّة مصلحة هندية مشتركة مع أميركا في فتح خطوط تجارية منافسة للعملاق الصيني، ومن هنا كان طريق التوابل محاولة لوصل جنوب آسيا بأوروبا عبر الدول الرئيسية في الخليج والشرق الأوسط، أي الإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل. لقد بات واضحاً سبب هذا الاصطفاف الهندي مع إسرائيل في حربها على غزّة، فقد تعاضدت المصالح الاقتصادية المشتركة مع التطرّف اليمني الهندوسي لحزب بهارتيا جناتا الذي يرى في المسلمين أعداءً يجب القضاء عليهم أينما كانوا، والذي يرى في الإبادة الجماعية لأهل غزّة مثالاً يمكن احتذاؤه في الهند وكشمير. لكن الهند، رغم كل إمكاناتها، تواجه خصماً نووياً في الجوار، فهي غير قادرة على المضيّ بسياساتها هذه إلى نهاياتها مع وجود باكستان على كتفها. بالتالي، سيكون عليها تقدير المصالح الباكستانية المرتبطة بمشروع الصين العظيم، الحزام والطريق، فباكستان إحدى أهمّ حلقات هذا المشروع العابر للقارّات. يعني هذا، من حيث النتيجة، محدودية الدعم الهندي الموقف الأميركي في المنطقة.
تدلّ مؤشراتٌ كثيرة على حالة الإرباك، أو حتى العطالة التي تمرّ بها مؤسّسة الرئاسة الأميركية في السنة الأخيرة من كل فترة رئاسية، يكون التركيز عادةً على كسب القواعد الحزبية للمرشّحين في كل حزبٍ على حدة، ثم يأتي التركيز على أصوات الناخبين في الانتخابات النهائية، وهذا يعني، من حيث المبدأ، التركيز على السياسات الداخلية. وقبل "طوفان الأقصى" كان التنافس بين مرشّحي كلا الحزبين على الفوز بتأييد اللوبي الصهيوني من خلال التعهد بتقديم الدعم اللامشروط لإسرائيل، وهي من أهم الإشارات الخارجية في الانتخابات، لكن، بعد الطوفان، كيف سيتم التعامل مع الأمر، خصوصاً أنّ استطلاعات الرأي تشير إلى تغيّر كبير في المزاج الأميركي، خصوصاً عند الفئات الشابّة وعند الجاليات العربية والمسلمة، وهذا كلّه يدعم مسألة الضعف الخارجي الأميركي في مرحلة السباق الرئاسي.
كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.