ألمانيا واللاوعي النازي
كان دالّاً رفض ناميبيا دعم ألمانيا الكيان الصهيوني في الدعوى التي رفعتها ضده جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية ضد سكّان قطاع غزّة. وليس مبعثُ الدلالة فقط مسؤولية ألمانيا التاريخية عن المحرقة اليهودية إبّان الحكم النازي، بل أيضا سجلها الاستعماري الأسود، إذ كانت أول دولة أوروبية ترتكب ''إبادة جماعية'' في القرن العشرين، وذلك في ناميبيا بين سنتي 1904 و1908، راح ضحيتها عشرات الآلاف من الناميبيين الأبرياء.
وبين الرفض الناميبي والدعم الألماني غير المشروط لإسرائيل تُثار أسئلةٌ بشأن المحدّدات الواعية واللاواعية التي تحكم الموقف الألماني من مقتلة غزّة، باعتباره أكثر المواقف الغربية انحيازا للسردية الإسرائيلية، إلى درجة تبدو ألمانيا أكثرَ إسرائيليةً من إسرائيل. فمنذ انطلاق العدوان الإسرائيلي على غزّة لم تُبدِ أي تعاطف مع نساء فلسطين وأطفالها الذين أبادتهم قوات الاحتلال. وهناك إجماع داخل مختلف أجهزة الدولة الألمانية ومؤسّساتها على دعم إسرائيل وتبنّي سرديتها، بالتوازي مع التضييق الممنهج على مُعارضي هذا الإجماع داخل المجتمع واعتبارهم مُعادين للسامية، حتى لو تعلّق الأمر بحملهم العلم الفلسطيني أو توشُّحهم بالكوفية الفلسطينية في مظاهرات سلمية داعمة لفلسطين.
يعكس قرار ألمانيا، الدخول طرفا ثالثا لمساندة إسرائيل في محاكمة لاهاي، جانبا من مضمرات اللاوعي النازي التي تسعى إلى التخلص من ربقته، فالنساء والأطفال الذين سفك الاحتلال الصهيوني دماءهم في غزّة، ولا يزال، يُشكّلون حلقة جديدة ومُحيَّنة من دورة الإبادة الجماعية التي تعرّض لها ملايين اليهود الأبرياء على يد الرايخ الثالث من منتصف ثلاثينيات القرن المنصرم إلى نهاية الحرب العالمية الثانية. وفي تجاهل دوائر القرار والنخب والإعلام في ألمانيا مأساةَ الفلسطينيين في غزة شعورٌ دفينٌ بأن المحرقة اليهودية ستبقى لعنة تطارد الألمان، ليس فقط بسبب مسؤوليتهم التاريخية عنها، بل أيضا لأنها كانت رافداً رئيساً في تغذية المشروع الصهيوني وتيسير سبلِ تحقُّقِ أكثرِ فصوله دراماتيكية على أرض فلسطين.
تمثل المحرقة، في الوعي الفكري والسياسي والاجتماعي الألماني، حدثا مفصليا غير مسبوق، ما يعني، في المنظور الألماني، استحالة تنْسيبها أو التشكيك في سياقاتها وأرقامها، وهو ما يترتّب عليه أن أي انتهاك لحقوق الإنسان، في أي مكان، لا يمكن أن يرتقي إلى مأساة المحرقة، حتى لو تعلق الأمر بجرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أو إبادة جماعية. لقد تحوّلت المحرقة التي قام بها النازيون إلى موجِّهٍ لِلّاوعي السياسي والثقافي الألماني، ومحدّد لسياسات ألمانيا ومواقفها المنحازة لإسرائيل بشأن القضية الفلسطينية. يعكس سعيها الدؤوب إلى دعم إسرائيل رغبتها الدفينة في تبييض سجلها النازي وتأكيد اعترافها به، بدعم أحفاد اليهود الذين قضوا في المحرقة، حتى لو كان ذلك في حلقة جديدة من دورة الإبادة التي يتعرّض لها الفلسطينيون الذين لم يكونوا يوماً طرفاً في جردة الحساب هاته بين ألمانيا واليهود.
لا يتوقف الساسة الألمان عن تذكير الرأي العام بأن لدى ألمانيا ''مسؤولية تاريخية لحماية إسرائيل''، تتمثل في محو العار الموروث عن الحقبة النازية. وهو الأمر الذي لا يستقيم من دون دعمٍ غير مشروط لدولة الاحتلال في جرائمها بحق الشعب الفلسطيني. ولا يبدو أن هؤلاء الساسة يكترثون للأثمان الباهظة التي يدفعها سكان غزّة من أرواحهم ودمائهم في مواجهة العدوان الإسرائيلي، لأن الاكتراث لذلك يضع الألمان في مواجهة لاوعيهم النازي بكل مضمراته المخزية.
أصبح دعم إسرائيل في المحرقة التي نصبتها للفلسطينيين في غزّة عقيدة سياسية ألمانية. لكنه في الوقت نفسه بات عبئاً سياسياً ونفسياً على قطاعات واسعة داخل المجتمع الألماني، تشعر أنها غير مسؤولة عما ارتكبه النازيون من جرائم بحقّ اليهود. وهو ما يعني أن الدولة والنخب في ألمانيا تواجه تحدّيا أخلاقيا ومجتمعيا، خصوصا أن المهاجرين باتوا يشكّلون جزءا لا يُستهان به من تركيبة المجتمع. وموضوع المحرقة اليهودية قد لا يعني لهم أكثر من مجرّد مورد سياسي توظفه دولة الاحتلال لتبرير جرائمها وحشد الرأي العام العالمي لصالحها.