ألمانيا... مخاوف دفينة من صعود اليمين المُتطرّف
كرّست الانتخابات الإقليمية في مقاطعتَي تورينغن وساكسونيا، شرق ألمانيا الأحد الماضي، صعود اليمين المُتطرّف في أوروبا، بعد تصدّر حزب البديل من أجل ألمانيا النتائجَ، بحصوله على نحو ثلث أصوات الناخبين في تورينغن، في طفرةٍ باديةٍ قياساً إلى انتخابات 2019، وعلى نحو 30% في ساكسونيا، ليحلّ ثانياً بعد الحزب المسيحي الديمقراطي، الذي حصل على 32%.
تكتسي هذه النتائج أهمّيةً بالغةً، أولاً لأنّها جاءت بعد الانتخابات الأوروبية (يونيو/ حزيران 2024)، وحقّقت فيها أحزاب اليمين المُتطرّف مكاسبَ كبيرةً، وثانياً لأنّها تأتي قبل نحو عامٍ من الانتخابات التشريعية الألمانية التي يُتوقَّع أن تجرى في نهاية سبتمبر/ أيلول 2025. يعني ذلك أنّ النتائجَ التي حقّقها اليمين المُتطرّف في المقاطعتَين لا تمثّل تحذيراً للطبقة السياسية التقليدية في ألمانيا فقط، بقدر ما تمثّل كذلك تحذيراً للاتحاد الأوروبي في مختلف مؤسّساته وأجهزته، فتحوُّلُ اليمين المُتطرّف رقماً رئيساً في شرق ألمانيا قد يكون مُقدّمةً ليصبح جزءاً من المعادلة السياسية على الصعيد الفيدرالي، ما يعني، تالياً، تناميَ نفوذه وقدرته في التأثير في القرارين السياسي والاقتصادي في دولةٍ تمثّل حجر الزاوية في السياسات الأوروبية. يثير ذلك مخاوفَ أوروبيةً دفينةً من أن يكون ما حقّقه "البديل من أجل ألمانيا'' مُقدّمة لسيناريو قد لا يختلف عن سيناريو 1933، حين شكّلت الانتخابات التشريعية، آنذاك في ألمانيا، محطَّةً مفصليةً في صعود النازيّة وسيطرتها على السلطة، بعد أن تصدّر الحزب القومي الاشتراكي بزعامة أدولف هتلر نتائجها، قبل أن ينقلب على الحكم الديمقراطي، مستغلّاً الأزمتَين الاقتصادية والاجتماعية اللتين كانت تمرّ بهما البلاد. ولعلّ المفارقةَ أنّ هذا الإرث التاريخي الثقيل، بقدر ما يُعَدَّ أحدَ العوائق الرئيسة، التي تحول دون تمدّد اليمين المُتطرّف داخل المجتمع الألماني، يُعَدُّ أيضاً مورداً بالنسبة للنُخَب الألمانية التي تعمل في توظيفه سياسياً وإعلامياً، بما يُحوِّلُهُ فزّاعةً سياسيةً، تثير مخاوف الألمان من تكرار السيناريو النازي بشكل أو بآخر.
بالطبع، يختلف المشهد العام في ألمانيا حالياً عن ذاك الذي كان إبّان فترة ما عُرف تاريخياً بجمهورية فايمار (1919-1933). ومن الصعب (إنْ لم نقل من المستحيل) تخيّل تكرار السيناريو النازي في ألمانيا. لكن على الرغم من ذلك، هناك مُؤشّراتٌ مُقلقةٌ؛ فمن ناحية، يتواصل تراجع التحالف الحاكم الذي يضمّ أحزاب 'الاشتراكي الديمقراطي'، و'الديمقراطي الحرّ، والخضر. فبعد الانتكاسة التي مُنِيَ بها في الانتخابات الأوروبية، جاء تراجعه في الانتخابات الإقليمية ليكرّس أزمةَ النُخَب التقليدية، ليس في ألمانيا فقط، وإنّما في عموم أوروبـا. هذه الأزمة تبدو على صلة وثيقة بملفّات عدّة، أبرزها ملفّ اللاجئين والمهاجرين، إذ يعتبر ''البديلُ من أجل ألمانيا'' التحالفَ الحاكم عاجزاً عن وضع سياسةٍ ناجعةٍ تحدّ من الهجرة التي أضرّت، وفق منظوره، بالاقتصاد الألماني. كما يطالبه بوقف الدعم العسكري لأوكرانيا في حربها مع روسيا، على اعتبار أنّ هناك إكراهات تاريخية وجيوسياسية تحكم ألمانيا في هذا الصدد.
من ناحية أخرى، كانت لافتةً دعوةَ زعيم التحالف الحاكم، المستشار أولاف شولتز، الأحزاب الرئيسة للتصدّي لليمين المُتطرّف، من خلال تشكيل حكومات إقليمية لا مكان فيها للقوميين المُتطرّفين. وتكشف هذه الدعوة مُعضلةَ الطبقة السياسية التقليدية في ألمانيا، وافتقادها الكيفيات التي تحدّ بها من توسُّع القاعدة الاجتماعية لليمين المُتطرّف، من دون مَسٍّ بقواعد الممارسة الديمقراطية. يتعلّق الأمر بمُعضلة سياسية ومجتمعية، ذلك أنّ ''البديل من أجل ألمانيا'' يُصنَّف ''منظمةً يمينيةً مُتطرّفةً''. بيد أن هذه المنظّمة حقّقت مكاسبَ انتخابيةً لافتةً بواسطة صناديق الاقتراع، في بلدٍ يُصنَّف ضمن الديمقراطيات الراسخة في أوروبا. أكثر من ذلك، سجّلت انتخابات يوم الأحد، في تورينغن وساكسونيا، نسبةَ مشاركةٍ تجاوزت 74%. ومن بديهيات السوسيولوجيا الانتخابية، في البلدان الغربية، أنّه كلّما ارتفعت نِسَبُ المشاركة السياسية حازت النتائجُ المُحقَّقةُ مصداقيتها، وهو ما ينسحب، تالياً، على الأحزاب والتشكيلات السياسية المشاركة في هذا الاقتراع أو ذاك.