ألكسي نافالني إذ يلتحق بالمنتحرين

21 فبراير 2024
+ الخط -

كلما أُعلن عن اغتيال معارض للسلطة في أحد البلدان غير الديمقراطية، أوحت لنا السلطات المعنية كأن هؤلاء الفدائيين متيّمون بقتل أنفسهم، وإن لم يفعلوا ذلك، سارع حلفاؤهم الغربيون إلى تصفيتهم. يحصل ذلك منذ عقود في روسيا أو إيران أو لبنان أو سورية، واللائحة تطول. آخِر ضحايا تلك النظرية، ألكسي نافالني، أبرز معارض لفلاديمير بوتين في العقد الأخير على الأقل. والحال أن فائض القوة لدى السلطات الروسية يُترجم في الداخل والخارج بسلوكياتٍ ودعاية لا تقيم وزناً لما هو منطقي، ولا تميّز بين ما هو خرافي وعقلاني. في سلوكيات الكرملين، القوة المطلقة تعبر عن نفسها احتلالاً لبلدان أو قتلاً لمعارضين مخضرمين أو منشقّين حديثاً من أمثال المجرم ــ المغتال يفغيني بريغوجين. في حالة نافالني، استعرض فائق القوة نفسه بقتل الرجل على الأرجح بالسم الأشهر (نوفيتشوك) في السجن المسمّى "الذئب القطبي"بمقاطعة يامال ننيتسك في الدائرة القطبية الشمالية، وهو موروث من معسكرات الأشغال الشاقة السوفييتية (الغولاغ). السم الذي تعرض له نافالني (47 عاماً) في 2020، ونجا منه بعد أشهر من العلاج في ألمانيا، خطف روحه هذه المرّة. هناك، من سجنه القطبي، تمكّن نافالني قبل نحو شهر من الكشف أن "درجات الحرارة لم تنخفض بعد دون 32  تحت الصفر". ولا يغيبنّ عن بالٍ أن النوفيتشوك المذكور كان سلاح تصفية معارضين كثيرين داخل روسيا أو في المنفى (في بريطانيا خصوصاً) في عهد بوتين منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي. لو لم يكن الحال كذلك، لماذا تحتجز السلطات الروسية جثّة الرجل منذ نحو أسبوع بهدف منع تشريحها؟ الجواب المنطقي والعقلاني تتبرع أرملته يوليا نافالنايا لتقديمه: السلطات الروسية تنتظر اختفاء آثار غاز نوفيتشوك من جثته، تقول، لذلك يعرب محامو الرجل عن ثقتهم بأن الجثة لن تُسلم إليهم قبل مرور 14 يوماً على الاغتيال، ريثما يصبح أي تشريح للجثة بلا جدوى إطلاقاً وبلا قدرة على تحديد سبب الوفاة. لكن هل فعلاً السلطات الروسية خائفة من ظهور السم في الجثة؟ ليس حقّاً، لكن فائض القوّة يجعلها تكرر ممارسة السلوك نفسه في كل حادثة مشابهة: ترتكب ما تريد ارتكابه، في وضح النهار، لكن من دون إظهار وجه المجرم. الكل يعرف هويته، لكن لا اسم ولا صورة وجه، ذلك أن القاتل مضمون الولاء أو تتم تصفيته فور إتمام المهمة، وأداة القتل محفوظة بأيد أمينة، والسلطة جبّارة محترفة لا تترك ثغرات في جريمتها، بشكل يصبح قول إن السلطة قتلت بريغوجين ونافالني وسيرغي يوشينكوف وآنا بوليتكوفسكايا وألكسندر ليتفيننكو وناتاليا إستيميروفا وسيرغي ماغنيتسكي وبوريس نيمتسوف، اتهاماً سياسياً "فيه إنّ" ومجرد رأي في النظام السياسي الروسي، أو تصفية حسابات لمصلحة خصوم الكرملين، وبقية المعزوفة التي لا تكنّ للعقول إلا الاحتقار، فتطلب من المواطن أو الصحافي أن يشاهد الموظف الروسي يدسّ السم لنافالني وأن يلتقط الصورة له لحظة ارتكاب الجرم، لكي يكون اتّهامه حكّام موسكو بارتكاب الاغتيال كلاماً فيه مصداقية لا عمالة للغرب. 
ولأن قصة الغرب اللعين تستحق أن تُفضَح، تولى رئيس البرلمان الروسي فياتشيسلاف فولودين يوم الجمعة مهمة المحلل المتذاكي فقال بعد سويعات من إعلان موت الرجل إن "المسؤولين الغربيين هم المستفيدون من وفاة ألكسي نافالني لأنهم يعوّضون بها خسارتهم (الحرب) في الميدان الأوكراني"!
إذاً، يلمح الرجل الثاني في هرمية السلطة الروسية إلى أن أصدقاء نافالني في واشنطن وبرلين ولندن وباريس، هم من قتلوه. شيءٌ مشابهٌ لا بد أن يكون فعله هؤلاء الأميركيون والفرنسيون والإنكليز، مضافاً إليهم الإسرائيليون، عندما قتلوا رفيق الحريري وبقية السياسيين اللبنانيين المعارضين للاحتلال السوري والإيراني ممثلاً بحزب الله في موجة اغتيالات عام 2005 وما تلاه. بالضبط كما قتل الموساد والأميركيون وداعش في ظهرهم، مئات المحتجين الإيرانيين في "انتفاضة الحجاب" لكي يورّطوا السلطات الإيرانية في حرب أهلية مثلما أخبرتنا أبواق حكام طهران. لكن ربما أيضاً يخلص التحقيق الروسي الرسمي إلى أن نافالني انتحر في محبسه، تماماً مثلما قتل السوريون الرافضون لعبودية نظام بشار الأسد أنفسهم بالغاز والمواد الكيميائية في مجزرة غوطة دمشق وأخواتها.
غداً تُطوى صفحة اغتيال نافالني وتُنسى، ولا يبقى منها إلا ذكرى معارض إضافي اغتيل على يد سلطةٍ، القتل عندها بسهولة شربة ماء.

أرنست خوري
أرنست خوري
مدير تحرير صحيفة "العربي الجديد".