ألف مرّة فوضى الديمقراطية ولا جنّة التسلّط
بينما كانت الولايات المتحدة تعيش مخاضها الخاص بتداول السلطة، ودونالد ترامب يحاول هدم جدار إضافي في البناء الديمقراطي الأميركي، كان رموز التسلط حول العالم يراكمون الحجج لتأكيد صواب الديكتاتورية والحكم من خلال السجن والحرمان والإفقار وإهانة العلم والعقل. علي خامنئي، الذي لم يُعرف عنه تخصص في الطب، وجد وقتاً يوم الجمعة الماضي ليفتي في كورونا من على شاشة التلفزيون. نبش في أرشيف مواجهة الإمبريالية ليقرّر حرمان شعبه من اللقاح الذي استصدر له جنسيات وطنية: صار هناك في أدبيات خامنئي شيء اسمه "اللقاح الأميركي" و"اللقاح البريطاني". لا فايزر ــ بيونتيك، ولا موديرنا، ولا أسترازينيكا ــ أكسفورد. فقط بريطاني وأميركي. الشر والشر المطلق تجسّدا في لقاحَين اثنين اشترك في إنتاجهما علماء من جنسيات مختلفة، ورؤوس أموال لا تعرف الهويات الوطنية العزيزة على قلب خامنئي. ولأن الرجل لا يرى العالم إلا فسطاطَين ومسرحاً لحروب لا تنطفئ، فقد أطلق أحدث حروبه على اللقاحَين، وحظر استيرادهما. ومع أن الرجل ليس مطالًباً بتقديم حجة لقراره المُنزَل، فإنه تنازل، وبرّر منع استيراد هذه اللقاحات بالتشكيك في فعاليتها، والأهم أنه طعن "بالنوايا الأميركية والبريطانية"، لأن هذين البلدين يريدان "تجربتها (اللقاحات) على الشعوب الأخرى". ولمزيد من الضحالة، وللإيغال في إهانة مستوى ذكاء من استمع إليه أو قرأ ما أدلى به، رمى خامنئي ما لا يرقى إلى مستوى محو الأمية، فقال: "إذا تمكن الأميركيون من إنتاج اللقاح، لماذا حدثت هذه الفضيحة إذاً؟ فقبل أيام خلال 24 ساعة توفي أربعة آلاف أميركي". فليمت إذاً الإيرانيون من دون لقاحات على مذبح حروب مرشد نظامهم.
بعد الإفتاء في الطب وقبله، كان خامنئي وزملاؤه في نادي العقل الممانِع، يتابعون الحدث الأميركي كطفل وجد برنامجه المفضل على الشاشة بعد حرمان طويل. والرفاق منتشرون بين القارات، وهم تهافتوا على التصريح والتغريد ومفاقمة التلوث السمعي من مختلف قارات الأرض. قالوا الكثير وسخروا أكثر، ولهم الحق في ذلك أمام كابوس من وزن دونالد ترامب. لكن ما قد يكون أبرز ما تقيأوا به، هو عتبهم على درجة سلمية قوات الأمن المولجة بحماية مبنى الكونغرس، فكيف يسقط فقط أربعة قتلى من بين مهاجمي مبنى الكابيتول في حدث جلل كهذا؟ لم يعبأوا بالتقصير الفاضح في أوساط أجهزة الأمن، ولا بما يرجح أن يكون تواطؤاً أو تقصيراً وظيفياً جُرمياً. كل همّهم تركز على كيف أنه في حدث كبير كالذي حصل، لم يقتل إلا أربعة أشخاص؟ يا لضعف أميركا فعلاً، ويا لعظمة أنظمة المؤامرة والممانعة والدم حيث، حين يجب أن يموت البشر، فإنهم يُقتلون بالمئات لسبب أو من دونه.
المتيَّمون بالدم وبالتسلط ممن وجدوا في الحدث الأميركي مسلسلهم المفضل، لم يجدوا في ما حصل تهديداً للديمقراطية من قبل الشعبوية والفاشيين الجدد، بما يُفترض أن يُقلق أي حريص على أي نظام سياسي ينظم علاقات البشر داخل حدود أي بلد بأقل سوء. على العكس من ذلك، اعتبروا أن الاقتحام وما تلاه من تسريبات حول خطط عصابة ترامب لإشعال اقتتال أهلي عشية تنصيب جو بايدن، هو نتيجة للديمقراطية الأميركية، هو تكريس لها. بحسبهم، الديمقراطية هي فوضى، والتسلط استقرار. الديمقراطية هي الهشاشة، والتسلط هو الجبروت. فصل السلطات وسيادة القانون الوضعي وسموّ مؤسسة القضاء وتداول الحكم والاستفتاء الشعبي والاختيار بالانتخاب... كلها أدلة ضعف لا تنتج إلا مشاهد مماثلة لما قدمه لنا رعاع واصلون لتوّهم من مجاهل العصور الوسطى. وإن كانت هذه تعني هشاشة، فإنها تُحسب لمصلحة الديمقراطية لا عليها. الهشاشة بهذا المعنى، تترك مجالاً لتعديل السلوك ولحقن الدماء. تعالج الأزمة في المحاكم وفي عزل أمثال ترامب بالتصويت في البرلمان، بدل قصفه مثلما حصل ذات مرة في مقر مجلس النواب الروسي أيام محاولة انقلاب 1993.
عاشت الهشاشة، وليذهب الجبروت إلى الجحيم. ألف مرة أعطاب الديمقراطية ... ولا لحظة جنّة التسلط.