ألغاز الحرب الإعلامية العالمية الأولى في خليج العرب
أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"
هناك لغز يستعصي على الحل في تكييف التحول المفاجئ في رياح الإعلام العالمي، من مهمة لتغطية مهرجان رياضي عالمي غير مسبوق في قطر، إلى بداية حرب إعلامية عالمية ضد "البربرية" العربية الإسلامية الخليجية، فقد لبس القوم لأمتهم، وامتشقوا سيوفهم، كمن جاء يشهد غزوة "حضارية"، أو بالعكس، جاء محارباً، فليس الإعلامي هنا من "المراقبين الصحافيين الملحقين" (embedded journalists)، بل هو من الجنرالات والمقاتلين، يمتشق الكاميرات والألواح الإلكترونية والهواتف الذكية جداً لفضح الجرائم "الخفية" للعالم بأسره، فهو في "مهمة مستحيلة" لنصرة المستضعفين من العمّال الوافدين، وكذلك أصحاب الميول الجنسية المحرّمة ممن تعجّ بهم السجون. .. وبخلاف حروب الغرب الأخرى التي شنّها في الخارج، لا تندّد المظاهرات التي انطلقت وتنطلق في العواصم الأوروبية بالحرب "الظالمة"، بل هي في غالبها مؤيدة للمجاهدين، ولائمة للقاعدين عن دفع الضرر، ومشجّعة على المقاطعة التي أصبحت واجباً إنسانياً.
وأهم ما في هذا اللغز هو الفجائية الغامضة لهذا التحوّل. فحتى قبل أسابيع قليلة، لم تكن هذه هي الأجندة، ولم تكن هناك أي إرهاصات حول هذه الحرب. ويزداد اللغز غموضاً بالنظر إلى فشل الحملة الشرسة التي رافقت حصول قطر على حق تنظيم المونديال من يومه الأول، رغم تمويلها السخي، وما لقيته من دعم جهاتٍ متنفذةٍ وتحالفاتٍ بدأت تتشكل من أضداد تشابهت، وأشباه قضى الله أن يميّزها ويراكم بعضها فوق بعض. ولم تحقق تلك الحملة أيا من غاياتها، التي كان في مقدمتها حرمان قطر من استضافة المونديال، رغم ما بذل فيها بسخاء من مال وجاه ومهارات تآمر، وتحالفاتٍ مع شياطين الإنس والجن. وقد تعرّض الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) في السنوات اللاحقة إلى ملاحقات قضائية بالفساد لم تترك حجراً إلا رفعته، ولا حساباً مصرفياً إلا فتشته. وقد قبض على طائفةٍ من كبار قادتها، وحوكموا وسجنوا. ولكن كل هذه التحقيقات لم تظهر أي أدلةٍ أو شبهةٍ ضد قطر، رغم ما سال من مدادٍ في الصحف، ومن دعاياتٍ مكشوفة المصادر والموارد، ردّدت التهم وروّجتها.
ما الذي حدث حتى انتبه الغافلون، بين عشية وضحاها، إلى أن قطر لم تكن تستحق تنظيم المونديال أصلاً، وأنها تنتهك حقوق الإنسان وتقمع المواطنين والمهاجرين، ولا تدع كبيرةً من الكبائر إلا وأخذت منها نصيباً؟ أين كان القوم كل هذه المدة، ولماذا لم يجتهدوا في منع قطر من استضافة المونديال خلال الاثني عشر عاماً الماضية، وخصوصا أن العون على ذلك كان جاهزاً، وشمل الحصار والاتهام بالإرهاب وبقية الكبائر؟ (وهذا يطرح سؤالاً عرضياً، لماذا لا يذكُر أحدٌ الإرهاب اليوم؟).
كل هذه التحقيقات لم تظهر أي أدلةٍ أو شبهةٍ ضد قطر، رغم ما سال من مدادٍ في الصحف، ومن دعاياتٍ مكشوفة المصادر والموارد
وما أن فرغنا من هذه الحكاية حتى أثيرت قضية عمّال البناء في قطر، وما يتعرّضون له من ظلم وعسف ومخاطر. ودخلت في هذا السجال منظماتٌ حقوقيةٌ وطائفةٌ من وكالات الأمم المتحدة. وقد دارت حوارات مع عديد من هذه الجهات التي اتخذت بعضٌ منها مقرّات في الدوحة. وأصبحت هذه المنظمات تدرس قوانين قطر، وترسل فرق الاستقصاء للنظر في أوضاع العمّال، وتدبج التقارير الدورية حول كل صغيرة وكبيرة. كانت "فيفا" بدورها تتابع وترصد، لأن الأمر يهمّها ويخصّ سمعتها. ولّد هذا كله عدداً كبيراً من الوثائق والاتفاقيات والتقارير، وبالطبع المواد الإعلامية والصحافية. .. انتهت هذه الضجّة بدورها، وخفت صوتُها، ولم تعد تثار في الإعلام ولا في غيره. بل إن المنظمّات ذات الشأن كرّرت الإشادة بأداء قطر في كل هذه المجالات.
يزداد الغموض أيضاً، إذ يلاحظ أن معظم جنود هذه الحرب فتحوا نيرانهم بعد الوصول إلى قطر، التي لا يجد زائرُها دليلاً على وجود عمّال مضطهدين، ولا تعجّ سجونها بمعتقلين من ذوي الميول الجنسية المحرّمة ممن يصرخون "وا ماكروناه!". فما يميز قطر لمن خبرها أنه لا يوجد فيها متسوّل يسأل الناس إلحافاً، ولا مشرّد يلتحف الأرض ويستظلّ بالسماء، كما هو الحال في العواصم التي أتى منها القوم (كلها بلا استثناء، من باريس إلى واشنطن وما وراءهما). وهي أيضاً أكثر بلاد العالم أمناً (أدام لله عليها ذلك)، حيث يمكن أن يترك المرء سيارته أو منزله مفتوحاً، ولا يُخشى عليه. وقد وقع لي شخصياً أكثر من مرّة أنني نسيت أغراضي الثمينة في مقهى أو مكان عام آخر، ثم عدت بعد ساعات فوجدتها حيث هي، لم تمتد إليها يد. (لعلها مفارقة أن السلطات الأمنية في قطر قد نبّهت أهل البلاد بين يدي كأس العام أن يكونوا يقظين بين يدي المونديال وحتى نهاية فعالياته، لأنه قد يكون بين مئات الآلاف من الزوار فئة من غير من عهدتم قطر من قاطنيها وزوّارها العاديين، فوجب الحرص)!
ما وقع منذ افتتاح المونديال أثبت خطل القول إن قطر عاجزة عن تنظيم هذا الحدث الدولي الكبير
ولكن لنفترض جدلاً أن في قطر كل الموبقات التي يتحدّث عنها المتحدّثون، فكيف سمع بها هؤلاء القوم فجأة؟. ... النظر إلى ما أسلفنا من اهتمام دولي مكثف بشأن قطر، وما يتعلق بالمونديال خصوصا، فلو كان هناك إعلامي أو ناشط بمنظمات الحقوق ونحوها، ولم تتوفر بين يديه أطنانٌ من المعلومات عن هذه الأمور، فهو إما كان في حالة غيبوبة مرَضية، أو أنه لا يستحقّ أن يكون في أي من هذه المهن. فإذا كان هذا الشخص أو الجهة يعلم بهذه الأمور، ثم ترك الأمر حتى فرغت قطر من بناء المنشآت، ثم أعلنت ومعها "فيفا" الترتيبات وجداول المباريات، ونظام التذاكر وأثمانها، وجهّزت كل لوازم الاستضافة، ثم باعت التذاكر التي نفدت منذ الأشهر الأولى. وإذا كانت غفلتُه استمرّت حتى أعدّت الفنادق وبقية المساكن، وحجز القادمون تذاكر الطيران والسكن، وحزموا حقائبهم، ثم يأتي ليطالب بالمقاطعة، فإنه على قدر كبير من عدم الاكتراث بالحقوق، أو على قدرٍ أكبر من الغباء، أو كليهما. فكيف يقاطع الناس مناسبة دفعوا تكاليفها سلفاً، وهيأوا أنفسهم لها، وبعضُهم أخذ عطلة من عمله، علماً أن معظم المهتمين بمثل هذه المناسبات يرتّبون لها منذ دهر كما يرتب الحاج لحجّه، فيدّخرون المال، ويخطّطون لكل تفصيلة قبل سنوات، فأي توقّعاتٍ بأنهم سيقبلون طلبات مقاطعة مفاجئة ذات أسباب واهية هي من السذاجة بمكان كبير.
نخلُص مما مضى أن الحجج التي يورِدها الشانئون عن حقوق العمّال والفساد وغير ذلك، وكذلك عدم أهلية قطر للاستضافة، وعدم وجود تراث رياضي يدعم أحقيتها، .. إلخ، كلها كانت قد أثيرت، ليس فقط مرّة أو مرتين، أو على استحياء، بل بكثافة وفي ظل حملاتٍ تولّى كبراها من تولّاه، وبلغت حد الصراخ والاستغاثة. وقد درست الجهات المختصة كل هذه الدعاوى، إلا أنها لم تجد لها ما يكفي من صدىً في الإعلام الجادّ ولا الهابط. كذلك لم تدعمها المنظمات الدولية، ولم تجد الدول التي خسرت فيها ما يكفي لتتظلّم (وهي دول ليست ممن تغمز قناته ويقعقع له بالشنان).
وحتى لو غفلنا عن هذا كله، فإن الضجيج المفاجئ، وفي هذا الوقت المتأخّر، لن يجدي. ولو تركنا هذا وذاك، فإن ما وقع منذ افتتاح المونديال وبين يديه أثبت خطل القول إن قطر عاجزة عن تنظيم هذا الحدث الدولي الكبير، وأن القطريين والعرب هم برابرة حين يتعلق الأمر بالرياضة، فقد سارت الفعاليات على أفضل ما يكون، وأفضل بكثير مثلاً مما حدث في باريس من كارثة استضافة كاس الأبطال في مايو/ أيار الماضي. كذلك فإن العرب وأهل قطر أثبتوا حماستهم للرياضة، وحقّقوا فيها الانتصارات التي ألجمت الألسن.
لنفترض جدلاً أن في قطر كل الموبقات التي يتحدّث عنها المتحدّثون، فكيف سمع بها هؤلاء القوم فجأة؟
نعود إذن إلى اللغز: ما السبب الحقيقي في هذه "الصحوة" المفاجئة والمتأخّرة جداً لضمائر كانت على ما يبدو في حالة سبات؟ ما الذي استجدّ حقاً منذ إطلاق ساعة العدّ التنازلي للمونديال في مثل هذا الوقت من العام الماضي، وبعدما اكتملت كل التجهيزات؟ .. يبدو أن العامل الحاسم في هذا الأمر حملاتٌ بدأت في الأشهر السابقة للمونديال عن حقوق ذوي الميول/ الهوية الجنسية غير المعتادة. وكان الرد الرسمي القطري أن الجميع مرحّب به، مع التفريق بين حقوق من شاء في الحضور والمشاركة وتحويل المناسبة إلى مظاهرة سياسية لدعم هذه التوجهات. وكانت هناك وجهة نظر أمنية بشأن خطورة إثارة مثل هذه القضايا الخلافية سياسياً، خصوصاً أن غالبية الجمهور المشارك في المونديال هم من غير الغربيين، ولدى هؤلاء تحفّظاتهم، ما قد يؤدّي إلى احتكاكات تزيد من مخاطر التحكّم في حشود ضخمة. وعليه، تستدعي الحكمة عدم إثارة هذه القضية أو تسييسها. وقد أيدت "فيفا" هذا التحفظ حين حظرت الشارات في المباريات. ولم يكن هذا القرار بضغط من قطر، التي أكدت دائماً أن ما يحدث في الملاعب ليس من شأنها. ولكن يجب أن نتذكّر أن غالبية مسؤولي "فيفا" هم من الأفارقة والآسيويين، ولديهم تحفظاتهم المعروفة في هذا المجال.
وربما يكون تصريح أحد الرياضيين القطريين السابقين عن قضية المثلية في وقت سابق من هذا الشهر قد ألهب الأمور نوعاً ما، وخصوصا أنه أدلى بالتصريح لوسيلة إعلام غربية. والمعروف أن اللوبي المؤيد للمثلية في الغرب أصبح من أقوى اللوبيات، واكتسبت القضية حساسية كبيرة لدى الرأي العام هناك، فيمكن لأي شخصية عامةٍ أن تصرح ضد الدين، وحتى أن تعبّر عن آراء عنصرية، أو حتى ضد المرأة، وتكون ردة الفعل السلبية في حدود معينة. إلا أن انتقاد المثليين أصبح "تابو"، ومن المحرّمات، إلى درجة أن كثيرين من غلاة المحافظين، مثل الرئيس السابق ترامب، يصرحون بالتأييد لحقوق هذه الفئة.
ولعل هذا يفسّر الحدّة الفجائية في هذه الحملة، فالسياسيون، والشخصيات العامة والمشاهير في الغرب (بمن فيهم الرياضيون)، يموضعون أنفسهم في خانة الدفاع عن هذه الحقوق، لأن هذه مسألة حياة أو موت لهم، بالنظر إلى توجّهات الرأي العام السائدة في الغرب. وحين يطرح مثل هؤلاء أنفسهم كأبطال، كما في الأعمال البهلوانية لوزيرة الداخلية الألمانية، فإن هؤلاء لا يحرّكون القضية، وإنما هم يستجيبون للضغوط.
ولعل من الحكمة عدم إعطاء هذه القضية الهامشية الاهتمام، وإذكاء وقودها بإجراءات غير ضرورية تستغل إعلامياً، فليس من المفيد أن يصبح مونديال قطر مهرجان سدوم وعمورة.
أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"