أكاديمية الكلاب

05 مارس 2023

(حسين ماضي)

+ الخط -

باستثناء الكلاب وسلوكها قبل أحداث الزلزال، لم يسترع انتباه فخامته شيء من وقائع الكارثة التي حلّت بجيرانه. الكلاب وحدها ما جعله مستغرقاً، لا حزناً، بل فرحاً؛ لأن هذه الكائنات تُبرهن يوميا على صدق رهانه عليها في حمايته من الحيوانات البشرية التي تتربّص لالتهامه مع عرشه ... والمقصود شعبه بالطبع.

المهم، كان إعجابه يتفاقم بالكلاب التي شاهدها على الفيديوهات، وهي تنبح وتتقافز، قبيل وقوع الزلزال بدقائق، وكأنها تتنبأ بالكارثة، فشعر آنذاك بسلام داخليّ، وأيقن أن قطيع كلابه سيذود عنه إن وقعت كارثةٌ مماثلة في بلده. فكلّ ما عليه، إن سمع نباحها، أن يهرَع من فوره لمغادرة القصر، خشية انهياره على رأسه.. غير أنه سرعان ما انكفأ عندما تذكّر أن النباح غدا لغةً عامة في بلاده، إلى الحدّ الذي لم يعد فيه التفريق سهلاً بين النباح الحقيقيّ والمزيّف ... ولذلك قصة.

أما القصة فتبدأ مع مطلع عهد الرئيس الذي كان ذا ولعٍ مجنونٍ بالكلاب، وبما يسبق الزلزال بمراحل، فقد حرص، ما إن استوى على عرشه، على اقتناء قطعانٍ غفيرةٍ منها، لا سيما للحراسة الشخصية، فلم يكن يثق في البشر مطلقاً، لكن لضرورات "البرستيج" فقط، ارتأى تعيين حرّاس بشريين مساعدين للكلاب، تقتصر مهمتهم على الوقوف خلفها، في المناسبات العامة. وأما خارج المناسبات، فيمنع الاقتراب منها، إلا لتيسير قضاء حاجتها وحسب؛ لأنّ الرئيس كان يخشى أن تنتقل إلى كلابه عدوى "الخيانة" من البشر، والتي كانت تقضّ مضجعه.

وفي مرحلةٍ متقدّمة بعد ذلك، عندما بلغت "الخيانة" مرحلة الفوبيا لدى الرئيس، لم يعد يسمح لأي كائن بدخول القصر، ما عدا الكلاب وحدها، التي باتت تحتلّ غرف السكرتاريا والاجتماعات، والردهات، بل غدت هي التي تحمل الأوامر والتعليمات إلى حاشية الرئيس، والويل لمن يُخطئ في فهم الأمر أو التلكؤ في تنفيذه، لأنّ جثته ستكون الوجبة التالية لسُعاة البريد (الكلاب).

آنذاك؛ حارت بطانة الزعيم وحاشيته، كثيراً، في كيفية فهم الرسائل "الشفهية" التي تنقل إليها على ألسنة الكلاب، وكان الثمن باهظاً بالطبع، فلم تجد هذه الحاشية مفرّاً غير المجازفة بتقديم عريضة استرحام للرئيس لحلّ معضلة "اللغة" بينها وبين الكلاب. عندها استشاط الزعيم غضباً في البداية، لكنه عندما راجع نفسه، لمعت في ذهنه فكرة: لماذا لا يُنشئ أكاديمية لتعليم النباح؟

مثل هذه الأكاديمية، عدا عن أنها تعدّ تكريماً للكلاب التي يبجّلها، فهي كفيلةٌ، أيضًا، باختصار زمن المسافة بين الأمر وتنفيذه، وستتيح لغةً مشتركةً بينه وبين حاشيته، ثمّ ارتأى أن يصبح النباح لغة عامة تنسحب على شعبه، كذلك، فأمَر بتعميم فكرة أكاديميات الكلاب في عموم البلاد، وأن يكون الالتحاق بها إلزامياً للجميع. وإنْ هي إلا بضع سنوات، حتى غدا النباح لغة العامّة يتداولها الجميع، ويصرّفون بها شؤونهم. ولا حاجة للحديث عن مشاعر الزهو والظّفر التي حلّت بالزعيم، وهو يسمع اللغة التي يحبّ أن تنبعث من كل أرجاء البلاد، بل خامره إحساسٌ بأن الشعب برمّته غدا حرساً وفياً له على غرار كلابه تماماً. أما الأكثر "وفاء" له من البشر، فكان يمنح لقب "حارس برتبة كلب".

كان هذا كله قبل الزلزال الذي ضرب الجيران، أما بعد الزلزال فله حديث آخر، تسرُده الحال المتردّية التي هوى إليها الرئيس الذي لم يعد ينام حرفياً، خصوصاً بعد أن شاهد الفيديو الذي أسلفنا ذكره.

في الليلة الأولى بعد مشاهدة الفيديو، استيقظ مذعوراً على صوت نُباح، لكنه عندما فرّ من القصر، وجد كلابه مستغرقةً في نومها، ليكتشف لاحقًا أن مصدر الصوت كان حديثاً عادياً بين اثنين من رعاياه. وتكرّر الأمر في الليلتين، الثانية والثالثة.

فكّر في إصدار أمر بمنع النباح ليلًا، لكنه لم يعرف كيف ينقل الأمر إلى أجهزته الأمنية، لأنّ من سينقلها نباحاً كلابه نفسها. فضلًا عن أن الفكرة ذاتها مخيفة، فما يدريه إن صمتت كلابُه أيضاً ظنّاً منها أنها معنية بالأمر، وحدث زلزالٌ حقيقيّ. فآثر غضّ الطرف عن هذا الأمر الذي ربما يسلبه حياته، وقرّر الانصياع للنباح الذي بات يمقُته بشدّة.

ما هي سوى أيام حتى بات الحديث عن رئيس يتقافز في الشوارع وهو ينبح هلعاً: زلزال ... زلزال..

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.