أقوال مأثورة مزوّرة
قرأت منشورا يتناقله بعضهم على "فيسبوك" فيه كلام يُنسب إلى جلال الدين الرومي، المتصوف الإسلامي المولود سنة 1207، ترد فيه مفردة رفيق، بمعناها المستخدم في أوقاتنا هذه، حيث إن مفردات عربية كثيرة طرأت تغيرات على معانيها، وجرى استخدامها في سياقات سردية مختلفة عمّا كانت تُستخدم به في العصور القديمة، فمفردة رفيق أصبحت في العصر الحديث تُستخدم بمعنى الشخص الذي تترافق معه في رؤية سياسية مشتركة. بينما كانت في تلك العصور تُستخدم بمعنيين: الرفيق صفة للمصدر "رفق"، أي الرؤوف والعطوف. أو المصاحب في السفر. ولم يعرف عن العرب (حسب علمي) استخدامها بمعانٍ أخرى، كالصداقة والصحبة والزمالة في الحزب. مع ذلك، يجري تناقل المنشور إياه بكثافة، ليس فقط من العامة، بل من مثقفين ومبدعين ومؤثرين في مجالاتهم، من دون أي انتباه إلى السذاجة في الجملة المتداولة على لسان الرومي، ولا بفهمٍ لمدلولات مفرداتها وسياقاتها الزمنية. وبدون ذرّة شكّ في المكتوب قبل تبنّيه ونشره، خصوصا من مثقفين يُفترض أنهم الأكثر حرصا في هذا العالم العجائبي الذي اختلطت به كل المعايير.
ليس جلال الدين الرومي الوحيد طبعا في هذا، بل ربما هو الأقل في تزوير مقولاته. يتفوّق عليه معلمه شمس الدين التبريزي، والذي يمكن القول إنه من أشهر الشخصيات الفيسبوكية، حيث يجري تناقل أقواله على نطاق واسع جدا باعتبارها دروسا في الحياة، وهي حصيلة تجربته الحياتية والمعرفية والصوفية. لكن من قرأ رواية التركية أليف شفق "قواعد الحب الأربعون" سوف يدرك بسرعة أن ما يتم تداوله عنه وعن الرومي هو ما قوّلته إياهم الرواية، وهي أقوالٌ من بنات أفكار الكاتبة مدعّمة بفهم ذكي لمنظومة التفكير الصوفية المستمدّة من الحضارتين الإسلامية والفارسية معا. أما ما قاله التبريزي في ديوانه الوحيد في العشق الإلهي فلا يعرف عنه مثقفو "فيسبوك" أي شيء سوى اقتباسات بسيطة في الرواية. وربما من حسن حظ الرومي والتبريزي أن من استخدم أقوالهما ووضعها في قوالب جديدة روائية مثقفة وظفت ذلك في عمل فني لاقى نجاحا عالميا كاسحا.
ولكن، ماذا بخصوص دوستوفيسكي وآينشتاين وشكسبير ومحمود درويش ونزار قبّاني وابن خلدون وغاندي وتولستوي وغيرهم كثر من مشاهير العالم في الفكر والفلسفة والعلم والثقافة والفن، حيث يتحفنا يوميا روّاد العالم الافتراضي بأقوال وحكم ينسبونها لهم، وهي على درجةٍ من السذاجة والركاكة يمكنك معها القول بكل ثقة: لو قال أحد هؤلاء فعلا جملةً ركيكةً كهذه، يجب الشك فورا بتاريخه ومنجزه الإبداعي. واللطيف أن جميع هؤلاء يتحوّلون لدى الافتراضيين إلى ناشطى تنمية بشرية، فكل ما يُكتب ويُنسب إليهم يصبّ فى خانة "التنمية البشرية"، وهي أقوالٌ لا تختلف إلا بالنزر اليسير عن الهذر الذي يطالعنا به مستخدمون دائمون لتطبيق تيك توك أو ريلز ممن يظنّون أن تجارب حيواتهم الفاشلة تؤهّلهم ليكونوا واعظين ومُرشدين نفسيين وأخلاقيين، حتى لو كانوا جهلة، ولا يملكون أبسط قواعد المعرفة والتخاطب. لكنها على ما يبدو لعنة ما بعد الحداثة في عالمنا المعاصر، حيث لا توجد قيمة للعمق المعرفي ولا للثقافة الحقّة، وحيث الإسفاف والضحالة والاستهلاك والاستعراض والركاكة، وحيث خلطة الدين والوعظ بالأخلاق وعلم النفس والحب سوف ينتج الكثير من هذا التهريج الفاضح، والذي، للأسف، يتناقله مثقفون ومبدعون من دون أي تدقيق، ولو بسيطا، فيما يتناقلون ويتبنّون. لكم أن تتخيّلوا أنني قرأت هذه العبارة منسوبة إلى شكسبير على صفحة مثقف مبدع عربي: "تخلصوا من كل العلاقات التي تؤذيكم نفسيا وصحيا واختموها بلا تردّد، فالعلاقات تتعوّض لكن الصحة لا تتعوّض". ... تخيّلوا أن شكسبير قال هذه الجملة الركيكة بمعناها وبلغتها؟
في هذا السياق، لا بد من ذكر نصّ تافه ومُغرض وضحل لغويا وفكريا وأخلاقيا، نسب إلى أدونيس قبل سنوات، في إطار الحملة الثورية السورية ضده. يدرك أي قارئ عادي لذلك النص مباشرة أن كاتبه جاهل لا يعرف أبسط قواعد اللغة العربية، ومع ذلك تناقل ذلك النص الضحل كثيرون من مثقفي الثورة وهم يكيلون الشتائم المُقرفة ضده. هل أعمى الهوى عيونهم وبصيرتهم عن رؤية التزوير في النص؟ أم هو الاستسهال في النقل والتبنّي بعيدا عن التحليل الموضوعي؟