أفكار عن الكتابة

06 اغسطس 2022

(محجوب بن بلة)

+ الخط -

قرأتُ مرّة عبارة عن الكتابة بما معناه "إذا استطعت قراءة نصّ ما بدون جهد يذكر فتأكد أن كاتبه بذل جهدا كبيرا ليكتبه". تعود إلي هذه العبارة، التي نسيت تماما متى قرأتها أو أين قرأتها، كلما أهم بكتابة نصّ ما علي إنجازه في وقت قصير. إذ تزدحم الأفكار والمعلومات في ذهني إلى حد أنني حين أحاول البدء في الكتابة أشعر بالضياع والتشتت، وبأن ما سأكتبه سوف يكون جافا وجامدا بلغةٍ سقيمةٍ ومملة، لن تستطيع إيصال أفكاري الحقيقية إلى قارئ مفترض بسبب جفافها وقسوتها. لكن بعد قليل، حين أشرع بالكتابة، أعيد صياغة المقدّمة محاولة التخلص من الأفكار المجرّدة فيها لصالح أفكار عملية بلغة بسيطة متخففة من الاقتباسات والأقواس، ومتخفّفة من التقعّر في المفردات، وخالية من الاستعلاء الثقافي الذي ينفرني، غالبا، من قراءة مواد ونصوص مهمة أشعر معها أن كاتبها يستعرض عضلاته الثقافية على القرّاء.

في المقدمة السابقة، ثمّة استعراض كتابي وثمة استعلاء معرفي أيضا، رغم ادّعائي فيها النفور من هذا الأسلوب، لكن الكتابة، بحد ذاتها، عملٌ استعلائي، ليس على القارئ فقط، وإنما على اللحظة التي تقرّر فيها الكتابة وعلى الأداة التي ستستخدمها لتكتب. أنت أمام صفحة بيضاء، ورقة أو شاشة، يستفزّك البياض إلى الحد الأقصى، يشهر قوته أمامك، سوف تشعر أنك ستدخل صراعا ما معه، معركة كسر عضم كما تسمّى في العامية، ثمّة منتصر فيها في النهاية، سوف تهزمك مساحة البياض مرّات عديدة، ستكتب وتمحي أو ستكتب وتمزّق الورقة وتأتي بأخرى، قد تشعر بالانتصار أحيانا حين تجد أن مساحة البياض قد تقلصت، لكنك سرعان ما ستكتشف أن سلاحك للتغلب على البياض، أي اللغة، غير حاد، والكتابة إن لم تكن حادّة وجارحة فلا ضرورة لها، ستمحو ما كتبته وتنظر إلى البياض الذي تسخر قوته من ضعفك، وتعاود المحاولة مرّات كثيرة، قد تهزم وتعلن ذلك حين تغلق الشاشة أو تخفي الورق الأبيض، لكنك ستبقى على قلق السؤال: كيف انتصر البياض عليك؟

لن تطيق هذه الهزيمة، ستعود إلى فتح الشاشة أو تحضير الورق الأبيض، وتبدأ من جديد. هنا سوف تستحضر كل ما تراكم في لا وعيك من صنوف المعرفة، وسوف تستعيد أساليب الصياغة، وسوف تحاول تعرية روحك أو قلبها على قفاها كما تقلب جيوبك لتبحث فيها عما يمكن أن يكون مختبئا عن الآخرين يساعدك في الانتصار، سوف تستخدم كل ما لديك: ضعفك وقوتك، شرّك وخيرك، جهلك ومعرفتك، خبثك وطيبتك، كل التناقضات التي فيك سوف تشهرها في معركتك ضد مساحة البياض أمامك، سوف تنتصر أخيرا. لكنك وأنت تنتشي بانتصارك سيخالجك شعور القوة والاستعلاء، استعلاء المنتصر، إذ ما من منتصرٍ متواضع، خصوصا أن خصمك بكل هذه القوة: الأبيض، حيث اللا لون وحيث الألوان كلها، ستهزمه بنقيضه، لكن بكل ما يحمله هذا النقيض من إرث الانتصار عبر التاريخ منذ اكتشاف مدلولاته على الألواح والأسطح الفارغة والمصمتة.

انتصارُك على المساحة البيضاء سوف يظهر على شكل استعلاء على قارئ مفترض. وإذا كان القارئ خبيرا فسوف يعرف أنك اكتفيت بنشوة الانتصار من دون أن تتراجع قليلا قبل إعلانك ذلك، وإشهارك الأثر الذي تركته على البياض إلى العلن. أما القارئ العادي فسوف يرى فيك العظمة، مثلما سيرى أنك محقّ في استعلائك عليه، ذلك أنك ستبدو كما لو أنك تدلّ على جهله؛ بينما الحقيقة أنك نسيتَ، في لحظة انتشائك بنصرك، أن تفكر بقارئك المفترض، بما هو عليه، بما تريد من نصّك أن يقدّم له، بما تريده أنت أيضا من الكتابة. نسيت أن تفكر بالخطوة المقبلة بعد الانتصار. الكتابة تشبه السياسة، عليك أن تفكّر باليوم التالي، اليوم المقبل بعد هزيمة خصمك، بما سيجعل من نصرك أبديا. في الكتابة، عليك أن تعود إلى النص بعد إنجازه مرّة ومرّة أخرى ومرّات عديدة، عليك أن تبذل جهدا كبيرا كي تتخلص من كل ثقل اللغة التي انتصرت بها، من زخارفها وتقعرها والناشز من اقتباساتها، الناشز والمكشوف؛ عليك أن تكون ذكيا وأنت تلعب لعبة الانتصار إلى نهايتها.

الكتابة تشبه اللعب، لكنها لعبة مخاتلة ومليئة بوساوس لن تنتهي، حتى تصل إلى قارئ متمرس ونوعيّ، سيقول لك إنك منتصرٌ لأنك تخليت عن استعلائك أخيرا.

ألم أخبركم أنه ما من كاتبٍ متواضع؟

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.