أفضل حكومات لبنان ستولد غداً

05 ديسمبر 2021
+ الخط -

أسماء جميلة أُطلقت على حكومات لبنان بعد تشكيلها عند كل أزمة سياسية أو دستورية وميثاقية تمرّ بها البلاد، وكانت تضع اللبناني أمام وعود وآمال منتظرة، وبأنها ستشكل المخرج الرئيسي للنهوض بالبلاد إلى برّ الأمان. لقد اعتاد اللبناني الانتظار على شاطئ الأمل كل مرة تتشكل فيها حكومة، فتطلق هذه بيانها الوزاري وتنال ثقة المجلس النيابي، ويهرع وزراؤها الجدد إلى رسم خريطة طريق لعملهم بعد كلّ حفلة تسلّم وتسليم في الوزارات. كل هذه الآمال والأحلام تتحطّم على صخرة الواقع المعاش، حيث تنخرط الحكومات في السياسة اليومية للبنان، وتنسج خيوطها لحياكة تشبه الواقع المرير، وتترك اللبناني مع أحلامه الضائعة.
حملت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي شعار "معًا للإنقاذ"، واعتبرت أن عملها سيتمحور حول نقاط ثلاث: عودة التواصل مع صندوق النقد الدولي، معالجة أزمة الكهرباء، وتأمين الأرضية الصحيحة للانتخابات النيابية المزمع إجراؤها عام 2022. هذا إذا تمّ تحديد موعد تاريخ الاستحقاق الذي بات الخلاف بشأنه بين الرئاستين، الأولى المصرّة على إجرائه في مايو/ أيار، والثانية التي تؤكد حصوله في 27 مارس/ آذار. "معًا للإنقاذ" حكومة العهد الأخيرة الذي وعد بتسليم لبنان أفضل مما استلمه، فهل ستكون هذه الحكومة "حكومة الغد" المنتظرة عند اللبناني، وتحقق حلمه بالعمل على إنقاذه من الأزمة؟ أم سينتظر حكومة الغد البعيد الذي لم يأتِ أبدا؟
انتظر اللبنانيون ما يقارب السنة حتى تشكّلت الحكومة، ولم تكد "فرحتهم تصل إلى قرعتهم" حتى انفجرت هذه من الداخل، علمًا أن تسميتها "معًا للإنقاذ" هدفت إلى وضع الخلافات السياسية جانبًا؛ فإذا برئيس الحكومة يدشّن حكومته مكبّل الصلاحيات، بين ثنائي الحركة وحزب الله من جهة، معطلين عمل الحكومة واجتماعاتها، مشترطين عودة عملها إلى البتّ بكفّ يد القاضي طارق بيطار عن التحقيق في واقعة انفجار المرفأ، ووزير إعلامها من جهة أخرى، الذي سبّب في تصريحه عن حرب اليمن، أكبر أزمة دبلوماسية مع دول الخليج العربي في تاريخ لبنان.

الصلاة والتضرّع مطلوبان لإنقاذ لبنان، ولكن إنقاذ الذات بالابتعاد عن التموضعات في الصراع الإقليمي يبقى الخيار الرئيسي لإنجاح عمل الحكومة

صحيح أن حكومة ميقاتي تلقّت الدعم الدولي، سيما من الأميركي والفرنسي اللذين لم يسمحا للرجل بتقديم استقالته بعد الأزمة المستجدة مع دول الخليج، لكن الدعم كان شفهيًا، فيما المركب يغرق مع تفلّتٍ في ضبط سعر صرف العملة الوطنية أمام الدولار، فقد أكّدت عضو لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان الإيطالي، ألكسندرا أرمليني، أن "لبنان يعيش منذ شهور حالة طوارئ إنسانية لم يشهدها من قبل قد تؤدّي إلى أزمة دولية"، وأضافت، في حديثها إلى الوكالة الوطنية للإعلام، إن "على إيطاليا تقديم الدعم للبنان، وإنه لا يمكننا أن نردد دائمًا أن لبنان هام جدًا بالنسبة لإيطاليا ولا نذكره إلا في حالات الطوارئ القصوى".
يعود نجيب ميقاتي من روما بجرعة صلاة وتضرّع لإعادة لمّ شمل حكومته، معوّلًا على ما سمعه من البابا فرنسيس عن "بذل كل جهده في المحافل الدولية لمساعدة لبنان على عبور المرحلة الصعبة التي يعيشها"، غير أن الرسالة الفاتيكانية التي عبّر عنها أمين سرّ الفاتيكان، بياترو باروليني على مسامع ميقاتي، شكّلت المفتاح الأساس لحلحلة العقد اللبنانية، بحيث شدّد على أهمية مبادرة اللبنانيين إلى إنقاذ أنفسهم.
الصلاة والتضرّع مطلوبان لإنقاذ لبنان، ولكن إنقاذ الذات بالابتعاد عن التموضعات في الصراع الإقليمي يبقى الخيار الرئيسي لإنجاح عمل الحكومة. والانقسام اللبناني العمودي الحاصل بين الأفرقاء لن يسهّل عملها، بل سيزيد الأمور تعقيدًا وسط تصعيدٍ إقليميٍ مع الحديث عن فشل الاتفاق النووي مع الإيراني، إضافة إلى التصلّب في الموقفين السعودي والخليجي من حكومة ميقاتي.

تمثل الحكومة في لبنان السلطة التنفيذية التي يفترض أن تكون سلطة مستقلة، بحسب مبدأ فصل السلطات

فشلت حكومة العهد الأخيرة قبل ولادتها، ولهذا سيعيش اللبناني من جديد خيبة استقالتها، وسط أزماتٍ يتخبّط فيها، من دون أن تقدّم له حلولًا جذرية لمشكلاته، فيما البلد يغرق أكثر وينذر الوضع بالارتطام الكبير، قبل إعلان لبنان "دولة فاشلة".
مع استقالة كل حكومة، يعاود الأمل عند اللبناني بتشكيل أخرى ذات بعد وطني، قادرة. أولًا، على السير في الإصلاحات المطلوبة، لكسب ثقة المؤسسات الدولية الداعمة. وثانيًا، على إبعاد لبنان من الاصطفافات والتموضعات في الصراعات القائمة في المنطقة، كي يبقى محافظًا على رسالته الحيادية، كما طلب البابا من ميقاتي. الأمل في حكومة يستطيع رئيسها اختيار وزرائه بعيدًا عن انتمائهم الطائفي، ومتخطيًا النص البياني المعلّب والجاهز لتلاوته في مجلس النواب، لتختار هي بيانها الوزاري الذي يكون بمثابة خريطة طريقها للعمل والإنتاج. هذا ما ينتظره اللبناني من الإفراج عن الحكومة العتيدة القادرة على تقديم حلول جذرية لأزمات لبنان البنيوية، حيث تطبّق في التوزير المثل "الرجل المناسب في الوزارة المناسبة له".
أخيرًا، تمثل الحكومة في لبنان السلطة التنفيذية التي يفترض أن تكون سلطة مستقلة، بحسب مبدأ فصل السلطات، وتتشكل من تكنوقراطيين، يتمتعون بدراية معمقة من خلال اختصاصهم في الوزارة التي يعيّنون فيها. هذه الحكومة التي لطالما أمل ويأمل اللبناني أن تتشكل في كل مرّة تستقيل حكومة، إلا أنه يتلقى الصدمة تلو الأخرى عند تكليف شخصيات سياسية ذات شبهات، أو تاريخ يحمل علامات استفهام كثيرة عن القدرة على القيام بالإنقاذ المنشود، كما ويُحبط عندما يرى البازار السياسي يدخل في تفاصيل تشكيلها، عندها يدرك أنّ أفضل الحكومات هي التي ستُشكل غدًا، أي التي يرسمها في مخيلته من دون أن تبصر نور الواقع.