أفريقيا وفخّ المديونية

28 ديسمبر 2024

مظاهرة ضد الفقر في أثناء اجتماع لصندوق النقد والبنك الدوليين بمراكش (13/10/2024 Getty)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

عند استقلالها في منتصف القرن الماضي، ورثت دول أفريقية عديدة ديوناً من الاستعمار، كما استدانت لاحقاً لبناء أنظمتها الجديدة. في البداية، كان الأمر ميسور الكلفة للغاية، لأن أسعار الفائدة كانت قريبةً من الصفر. لكن المأساة أن الدول الأفريقية وقعت لاحقاً في فخّ الديون المتزايدة. ففي نهاية السبعينيّات، بعد الصدمات النفطية، ارتفعت أسعار الفائدة بشكل كبير. وجدت البلدان الأفريقية نفسها تسدّد بمعدّلات مرتفعة للغاية ديونها التي تعاقدت عليها بمعدّلات منخفضة للغاية. خلال هذه الفترة ظهرت سياسات إعادة الهيكلة بقروض من البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي، في مقابل إصلاحات لتحرير الاقتصاد. وحدثت موجة ثالثة من الديون في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين مع وصول الصين، التي سرعان ما أصبحت الدائن الرئيس في القارة. هكذا وقعت القارة الأفريقية في دائرة جهنمية، فانتقلت من نير الاحتلال الغربي لتصبح فريسةً للديون.

الدَّيْن بطبيعته يدفع دائماً المَدِين إلى الاعتماد على دائنه، وبالتالي التخلّي عن جزء من سيادته

إذا كان هناك سلاح قوي بلا حدود يُبقِي المستعمرات السابقة في وضع اقتصادي قسري، فهو الدَّيْن. وأدّت التبعات الاقتصادية للديون المفروضة على الدول المستعمرة إلى كوارث اجتماعية لا تزال ملحوظةً حتى اليوم في العديد من البلدان، التي شهدت انتفاضات اجتماعية، وحالات من الفوضى السياسية في مراحل مختلفة من تاريخها القريب ما بعد المرحلة الكولونيالية.
أدّى التغير في وضع الدَّيْن خلال التسعينيّات بشكل عام إلى إحداث فجوة في مسؤولية الأنظمة السياسية. وخلافاً للقرن التاسع عشر، فإن الأشكال الحديثة من ردّات فعل الدائنين لا تمثّل تحدّياً مباشراً لسيادة الدولة. ومع ذلك، فإنها تؤدّي إلى التصرّف في أصول الدولة والتحكّم في توجّهاتها الاقتصادية في سياق لا يعمل فيه نظام التمثيل البرلماني أو الرقابة على المحاسبة العامة بشكل كامل. إن اقتصاد الدولة، مثله مثل ما يملكه الأفراد، يتكوّن من أصول والتزامات، بما في ذلك الديون، وكلما تضاعفت الديون اضطرّت الدولة إلى الاستجابة لشروط مُقرِضيها، فالدَّيْن بطبيعته يدفع دائماً المَدِين إلى الاعتماد على دائنه، وبالتالي التخلّي عن جزء من سيادته.
بحسب معطيات البنك الدولي، بلغ رصيد الديون الخارجية (العامّة والخاصّة) للدول الأفريقية في نهاية 2023 أكثر من 1154 مليار دولار. وتتحمّل عشر دول في القارّة 70% من هذا العبء، الذي يثقل كاهل اقتصادياتها. ويُعدّ كلّ من البنك الدولي والبنك الأفريقي للتنمية وصندوق النقد الدولي والصين وغيرها من بين الدائنين العامين الرئيسيّين. لقد أصبح الدَّيْن الخارجي لدول القارة الأفريقية أحد أكثر أبعاد أزمتها الاقتصادية والاجتماعية أهمية خلال العشرين عاماً الماضية، لكن في الوقت نفسه فإن اندماجها في الاقتصاد المُعولَم كان إلى حدّ كبير تحت شعار معالجة الديون. وفي الواقع، قبل تنفيذ مجموعة من الإصلاحات الهيكلية، كان المقصود من تدخّل صندوق النقد الدولي في الأساس هو مساعدة الدول المتعثّرة في تحمّل التزاماتها وتسديد فوائد ديونها المتضخّمة.
من الواضح أن صندوق النقد الدولي، ورديفه البنك الدولي، يدعمان بشكل منهجي الأنظمة الاستبدادية التي استولت على السلطة خلافاً للآليات الديمقراطية، وتقود سياسات معادية للمجتمع، وترتكب جرائمَ ضدّ الإنسانية. لقد أظهر صندوق النقد الدولي افتقاره التامّ إلى احترام المعايير الدستورية لبعض البلدان الأعضاء فيه، ولم يتردّد قط في دعم العسكر الانقلابيين، والطغاة المطيعين اقتصادياً، في مواجهة الحكومات الديمقراطية. ولسبب مماثل، يعتبر البنك الدولي أن احترام حقوق الإنسان لا يُشكِّل جزءاً من مهمته.

تحوّلت المساعدات المالية المتواطئة التي يقدّمها البنك الدولي للأنظمة الدكتاتورية عبئاً على الشعوب

عُبِّر عن دعم البنك الدولي للأنظمة الديكتاتورية من خلال منح الدعم المالي، وكذلك المساعدة الفنّية والاقتصادية. وقد ساعد الدعم المالي هذه الأنظمة الديكتاتورية على البقاء في السلطة لارتكاب جرائمها. وقد ساعد البنك الدولي أيضاً في ضمان عدم عزل هذه الأنظمة في الساحة الدولية، لأن هذه القروض والمساعدات الفنّية كانت دائماً تسهّل العلاقات مع البنوك الخاصّة والشركات غير الوطنية. وفرض النموذج النيوليبرالي نفسه تدريجياً على البلدان الأفريقية، وتشمل قائمة الحكومات التي وُلِدت من انقلابات عسكرية ودعمها البنك الدولي، ديكتاتورية موبوتو في الكونغو منذ عام 1965، ودكتاتورية عيدي أمين دادا في أوغندا، وجوفينال هابياريمانا في رواندا من عام 1973، وزين العابدين بن علي في تونس من 1987 إلى 2011، وعهد حسني مبارك في مصر من 1981 إلى 2011، وصولاً إلى عهد عبد الفتاح السيسي.
وعندما انهارت بعض هذه الأنظمة الدكتاتورية، طالب البنك الدولي بشكل منهجي الأنظمة الديمقراطية اللاحقة بتحمّل الديون التي أنفقها الطغاة. باختصار، تحوّلت المساعدات المالية المتواطئة التي يقدّمها البنك الدولي للأنظمة الدكتاتورية عبئاً على الشعوب، وعليهم اليوم أن يسدّدوا ثمن الأسلحة التي اشتراها الطغاة لقمعهم.
الغالبية العظمى من القادة الحاليين في البلدان الأفريقية عالقون تماماً في النموذج النيوليبرالي. وفي معظم الحالات، فإنهم مرتبطون بالكامل بمصالح الطبقات المهيمنة محلّياً، التي ليس لديها أيّ احتمال للابتعاد (ناهيك عن الانفصال) عن السياسات التي تتبعها القوى الصناعية الكبرى، بما في ذلك الصين. ويقتصر الرأسماليون في الجنوب على الاقتصاد الريعي، وعندما لا يكون الأمر كذلك، فإنهم يسعون (على الأكثر) إلى الحصول على حصّة من السوق، ما يعني أن القارّة الأفريقية لن تتحرّر من نير الديون، على الأقلّ في المدى المنظور.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.