"أصوات" سليمان فياض

01 مارس 2015

سليمان فياض (1929-2015)

+ الخط -

دأب الدرس النقدي العربي، الكلاسيكي المدرسي خصوصاً، في بحثه انشغال الرواية العربية بالعلاقة مع الغرب، على التوقف، غالباً، عند الأعمال الثلاثة: "عصفور من الشرق" (توفيق الحكيم، 1938)، "الحي اللاتيني" (سهيل إدريس، 1953)، "موسم الهجرة إلى الشمال"، الطيب صالح، 1966). وقليلةٌ الدراسات التي تابعت، بجهد تحليلي موفق، تلك العلاقة الصعبة، كما رآها الروائي العربي، في نصوصٍ ما زالت تتوالى، وتحضر فيها هذه المسألة، منها أمثلةً: "روائح ماري كلير"، للتونسي الحبيب السالمي (2008)، "الحفيدة الأميركية"، للعراقية أنعام كجه جي، (2009)، "العطر الفرنسي"، للسوداني أمير تاج السر (2010). وأياً كانت المقاربات البحثية للمدوّنة الروائية العربية في اشتغالها على هذا الشأن، (الإشكالي؟)، فإن عملاً شديد التميّز والأهمية، له مطرحه اللافت في هذا السياق ومساره، كثيراً ما أهمله الذين استهلكوا كلاماً وفيراً عن الحكيم وإدريس والطيب صالح، أقصد رواية المصري، سليمان فياض، "أصوات".

رواية صادمةٌ وشديدة الجرأة، تأتي بالغرب إلى الشرق، ولا تأخذ بطلها الشرقي، العربي، إلى الغرب. صدرت في 1972. يأتي عليها كاتب هذه السطور، هنا، من دون أن تكون بين يديه، لكنها باقية في البال، بعد ثلاثين عاماً على قراءتها، فالحذاقة المتحققة في مبناها وسردها ولغتها وإيقاعها باقية، ولا تمّحي من الذاكرة. تقوم على حكي شخصياتها ما جرى، فيلملم القارئ الوقائع والأحداث بنفسه، عن فرنسيةٍ جميلةٍ تأتي مع زوجها الذي درس في فرنسا، واقترن بها، إلى قريته المصرية، تقترب من أهلها، وتداوي عيون أطفالها، غير أن حسداً متمكناً في نساء القرية تجاهها، يدفعهن إلى الإمساك بها، ليجرين لها ختاناً، فيتدفق دم منها، وتموت، وتدفن في القرية التي يغادرها زوج المغدورة إلى فرنسا، بعد الفاجعة. وقد أصاب الناقد رشيد العناني في اعتباره "أصوات" فياض عملاً مضاداً لرؤية توفيق الحكيم، في "عصفور من الشرق"، ونسفاً لها، وهي رؤيةٌ تقوم على إعلاء روحانية الشرق على مادية الغرب. الأمر غير ذلك، ليس في قريةٍ مصريةٍ فقط، مقادير الجهل والتخلف فيها مريعة، بل في العموم العربي، كما توحي هذه الرواية القليلة الصفحات، والتي برع صاحبها في تجهيل زمنها المصري، وأيضاً في الصراحة الشجاعة التي تتجلى في هذا النص الباقي علامةً خاصةً في المتن الروائي العربي.

قال سليمان فياض، مرة، إنه استوحى روايته من واقعةٍ حقيقية، غير أن هذا ليس مهماً، فالتعبير الحار الذي حضر في تصويره دواخل الشخصيات، وفي تشخيصه تمثيلات الجهل والتخلف في القرية، ولدى ناسها رجالاً ونساء، دلَّ على طاقة تخييلية كبرى لدى الكاتب، وهو الذي طالما اشتكى من الإفراط في الانتباه إلى "أصوات"، وحدها من بين أعماله، وقد أنجز عدة مجموعات قصصية وروايات أخرى، قبل هذه الرواية وبعدها، وقد كتبها في أقل من أسبوع، على ما قال. نظنها الشحنة التعبيرية الحادة، في مقاربة الاحتكاك العربي المشرقي بالغرب المتقدم، جعلت لهذا العمل قيمته التي يتم التنويه إليه، هنا، في مناسبةٍ مؤسفة، هي رحيل صاحبه، الأسبوع الماضي، عن 86 عاماً، فتذهب ذاكرة القراءة إلى "الخواجاية" سيمون، الفرنسية التي قضت في قريةٍ مصريةٍ، لم يُؤثر سليمان فياض مهادنتها، بحديث عن قيم شهامة وسماحة فيها، بل آثر الإحالة إلى استحالة تعايش التقدم مع التخلف، في واقعٍ تتنوع فيه فنون الاستبداد الاجتماعي، وكذا استبداد السلطة، كما تبدّت في شخصياتٍ في الرواية، تعبر إلى الخاطر الآن، مستدعاةً في ذاكرةٍ يقيم فيها شخوص ظالمون متسلطون، في القرية المصرية أيضاً، أجاد يوسف إدريس في "الحرام" في تشخيصهم، وكذا أحمد رشدي صالح في "الزوجة الثانية"، مثليْن.

رحم الله سليمان فياض. أطلق رصاصةً قبل أزيد من أربعين عاماً، على التخلف والجهل والحقد والعمى، في حكايةٍ باقيةٍ، ومضى. تُرى، هل وصل صدى أصواتها؟

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.