أصل الفيروس وأشياء أخرى

20 اغسطس 2021

(العربي الجديد)

+ الخط -

الترتيبات الأميركية لمواجهة الصين، التي تفرّغت لها إدارة الرئيس، جو بايدن، في الأسابيع الأخيرة، تتراوح بين الحشد العاطفي الذي يخاطب كلاً من الرأي العام الداخلي والرأي العام في مناطق العالم المستهدفة من جهة، وإعادة صياغة مصالح دول العالم وأنظمتها مع الولايات المتحدة لتكون جزءاً من خطة دولية واسعة لتقليم أظافر الصين، قبل أن تصبح أقوى مما يمكن مواجهته، من جهة ثانية.

المعركة الأخلاقية التي تحمل عنوان "تحديد أصل فيروس كورونا"، لا تبدو مسألة علمية خالصة، منزّهة عن التوظيف السياسي المُغرض، خصوصاً منذ قرّر الرئيس بايدن في مايو/ أيار الفائت "توسيع التحقيق في أصل الوباء". هذا ما تعتقده بكين بوضوح، وتراه جزءاً من الحشد الإعلامي الغربي ضدّها، بغرض تشويه صورتها الأخلاقية، والذي شمل، في الشهور الأخيرة، تصوير الصين قوة صاعدة فوضوية وغير مسؤولة؛ كما في قضية صاروخ الفضاء، أبريل/ نيسان الفائت، حين روّج الإعلام الغربي فكرة أن الصاروخ كان "تائهاً"، كذلك تصويرها قوة قمعية وعدوانية؛ كما في قضية أقلية المسلمين الإيغور وهونغ كونغ، والآن تصويرها غير قادرة على السيطرة على الأبحاث العلمية وإدارة النجاح العلمي؛ بدليل أن فيروس كورونا تسرّب من مختبر في مدينة ووهان الصينية.

ومحصلة ذلك كله، من وجهة نظر بكين، سيكون تبرير مهاجمة الصين؛ سواء اقتصادياً أو سياسياً، وربما عسكرياً في نهاية المطاف، للحدّ مما تتسبب به من "أذى للبشرية". وهذا سلوك تقليدي في سياسات الدول الغربية الاستعمارية، إذ لم تكن القوى الاستعمارية الأوروبية في القرن التاسع عشر، مثلاً، تحتل دولة إلا لأن شعبها غير قادر على إدارة نفسه، ويحتاج من يقوده على درب الحضارة والتخلّص من التخلّف. الآن تحتاج الصين من يحوّلها من دولة غير مسؤولة تمثل خطراً على الحضارة الإنسانية، إلى دولة مسؤولة تكون عنصراً مفيداً للحضارة المعاصرة. هذا ما يريد أن يقوله الخطاب الأميركي والغربي في جوهره.

تعمل الصين لمنع تحوّل حدود مقاطعة شينجيانغ إلى ساحة مواجهة مع "طالبان"، بدعوة نُصرة المسلمين الصينيين الإيغور

لهذا الغرض، يتوزّع الخطاب الإعلامي الغربي (الأميركي والبريطاني خصوصاً) الذي يمهّد لحرب ما ضد الصين، بين استفزاز الرأي العام، الغربي خصوصاً والعالمي عموماً، في مسألة جائحة كوفيد 19 التي عانى منها الناس جميعهم في كل بقاع العالم، صحياً واقتصادياً واجتماعياً، واستفزاز الرأي العام في المناطق المستهدفة، مثل الدول المنافسة إقليمياً للصين في وسط آسيا وشرقها، كالهند والفيليبين، وصولاً إلى الشرق الأوسط، حيث عادت الولايات المتحدة إلى لعبة تهييج المشاعر الدينية والقومية، تضامناً مع المسلمين الصينيين الإيغور، التي يمكن أن تفضي إلى "إعلان الجهاد ضد الصين" إذا اقتضى الأمر، كما فعلت في أواخر سنوات حربها الباردة ضد الاتحاد السوفييتي.

الجهود الإعلامية الغربية الساعية إلى اتهام الحكومة الصينية بالتسبّب بانتشار فيروس كورونا المستجد، نتيجة عدم مسؤوليتها، دولة ونظاما صحيا، لا تتورّع عن تهديد منظمة الصحة العالمية نفسها إذا لم تخلص إلى ذلك الاستنتاج المرغوب. قبل أيام فقط، نشرت صحيفة صنداي تايمز البريطانية تحقيقاً يقول "إن هناك صفقة سرية بين الصين ومنظمة الصحة العالمية لإخفاء أصل الفيروس"، لأن المدير العام للمنظمة، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، يُعتبر صديقاً قديماً للصين. لذلك اتجهت المنظمة، في بداية الجائحة، إلى ترجيح فرضية أن الفيروس انتقل من الحيوانات، عوضاً عن فرضية أنه تسرّب من "مختبر ووهان". يلخص هذا التحقيق الصحفي ما تريد الولايات المتحدة وحلفاؤها الوصول إليه: أن البشرية تأذّت من الفيروس، لأن في الصين نظاماً فوضوياً غير مسؤول، وليس لأنه انتقل من الحيوانات إلى البشر، وهو أمرٌ حدث سابقاً في أماكن أخرى، ويمكن أن يحدث مستقبلاً في أي مكان في العالم، من غير مسؤولية تقع على كاهل الحكومة الصينية وإداراتها.

يبدو أن بكين استعدّت مبكراً للمخططات الأميركية التي سبقت مسألة انتشار فيروس كورونا المستجدّ

تدرك الصين أن الولايات المتحدة هي القوة العظمى الوحيدة في العالم، وقطبه الأوحد. وتدرك أن الأخيرة تمسك زمام الإعلام العالمي بشكلٍ يجعلها قادرة على توجيه الرأي العام في معظم بقاع العالم وأقاليمه. كذلك تدرك أن دولا كثيرة في مناطق استراتيجية وحيوية، مثل الشرق الأوسط ووسط آسيا، ترتبط مصالحها ومصالح أنظمتها مع الولايات المتحدة، بشكلٍ يجعلها حلقة توجهها أميركا في أي ترتيباتٍ تستهدف الصين. لكن الصين تدرك أيضاً أن لحظة المواجهة هذه كانت آتية بلا ريب، نتيجة نهوضها الاقتصادي الهائل وطموحاتها الإمبراطورية البيّنة، ويبدو أن بكين استعدّت مبكراً للمخططات الأميركية التي سبقت مسألة انتشار فيروس كورونا المستجدّ، فأعادت النظر أمنياً وتنموياً في أحوال مقاطعة شينجيانغ، ذات الأغلبية من قومية الإيغور، بحيث تمنع استغلال الولايات المتحدة هذه الأقلية القومية بدعوى حمايتها والدفاع عنها، كما تفعل واشنطن عادة في مواجهاتها الدولية (مثلاً: الادعاء بحماية الأكراد في مواجهتها مع نظام صدام حسين)، كذلك في تأمين حدودها الغربية المتاخمة لأفغانستان، والتواصل مع حركة طالبان قبل أسابيع من سيطرتها على كابول، عقب انسحاب الجيش الأميركي من الأراضي الأفغانية، عسى أن يحول ذلك دون تحوّل حدود مقاطعة شينجيانغ إلى ساحة مواجهة مع "طالبان"، بدعوة نُصرة المسلمين الصينيين الإيغور.

وحدها قضية ظهور فيروس كورونا المستجد وانتشاره أربكت الموقف الصيني، نتيجة سعي الإدارتين الأميركيتين، السابقة والراهنة، إلى تسييس هذه المسألة ذات الطابع العلمي البحت، إذ تكاد تكون المسألة الوحيدة التي اتفقت عليها إدارتا دونالد ترامب (أطلق على فيروس كورونا تسمية الفيروس الصيني) وجو بايدن الذي قاد حملة إعادة التحقيق الذي أجرته منظمة الصحة العالمية في أصل فيروس كورونا. العالم كله مدعوّ لتذكّر وسائل التاريخ الاستعماري والإمبريالي، وأدواته وخطابه، في تعاطيه مع البلاد التي يطمع بها أو يستهدفها، قبل اتخاذ موقف نهائي من الصين في هذه المعركة القذرة.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.