أسئلة داعش المستمرّة
في الكتاب الصادر أخيراً "ما بعد دولة الخلافة: هل سيعود تنظيم داعش من جديد؟" عن معهد السياسة والمجتمع (بالتعاون مع مؤسسة فريدريش أيبرت الألمانية)، يناقش باحثون وخبراء غربيون وعرب الوضع الراهن لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بعد انهيار "دولته"، والآفاق المقبلة والسيناريوهات المتوقعة. ويمثل الكتاب حصيلة نقاشات وأوراق عمل وحوارات "حلقة بحثية علمية" عقدها المعهد، وضمت 15 باحثاً وخبيراً مشاركاً (على مدار يومين عبر تقنية زووم)، وتناول عدة أسئلة رئيسية: ما حالة تنظيم داعش في العراق وسورية اليوم؟ كيف يتكيّف مع التحولات والتطورات السياسية والأوضاع العسكرية؟ وما السيناريوهات المتوقعة له في الفترة المقبلة؟ ثم كيف يتعامل التنظيم إعلامياً مع فقدانه أبرز قياداته الإعلامية وفقدانه أيضاً ماكينته الإعلامية والمحتوى الذي كان يستعرض خلال قوة التنظيم ونفوذه عملياته العسكرية، ما مثّل أبرز محاور القوة في الدعاية الإعلامية والسياسية وديناميكيات التجنيد لديه؟
وتناولت الحلقة العلمية سؤال التماسك الأيديولوجي والفكري وكذلك الداخلي في التنظيم، هل تضعضع؟ وهل ظهرت الخلافات الإيديولوجية في أوساطه؟ وكيف تعامل معها؟ وهل هنالك مراجعات جوهرية جرت على أيديولوجيا التنظيم ومواقفه الفكرية والفقهية التي أدّت إلى اصطدامٍ بينه وبين حاضنته الشعبية في مناطق كثيرة؟ ثم ما مصير تركة "داعش" البشرية، بخاصة في المعتقلات والسجون، وإلى أين ذهب الجيش الكبير الذي كان يمتلكه التنظيم؟ وهل خسر ثروته المالية وترسانته العسكرية، أم أنّه استطاع الحفاظ على جزءٍ كبير منها؟ وهل مثّلت استراتيجيات مكافحة التطرّف والإرهاب عالمياً وإقليمياً وعربياً ومحلياً مقارباتٍ ناجعةً ومفيدةً فعلاً تضمن عدم قدرة التنظيم أو غيره من تنظيمات على النهوض مجدّداً، وإعادة السيطرة والتمكّن من تحقيق نفوذ جديد؟
في الفصل الأول، ناقش الباحث تشارلي ونتر، بصورة معمقةٍ، أبرز التحوّلات التي جرت على إعلان الخلافة بعد خسارة الأراضي، وأشار إلى التحوّل في مضمون الدعاية وطريقتها وتغير أهمية الوسائل الإعلامية. وقدّم الباحث المصري ماهر فرغلي مقاربة مهمة عن الخلافات والانشقاقات الفكرية والتنظيمية داخل "داعش" وملامحها الرئيسية، بخاصة التي ظهرت خلال الأعوام الأخيرة. وتناول الباحث الأردني محمد العظامات السيناريوهات المستقبلية العسكرية للتنظيم في العراق وسورية، وناقش براين غلين ويليامز احتماليات صعود نسخة جديدة من "داعش". وفي مقال مهم وغني، تناول الباحثان العراقيان، علي طاهر الحمود وأحمد قاسم مفتن، ملف المعتقلين في المخيمات، بخاصة من النساء والأطفال، والظروف المأساوية التي يعيشون فيها، من خلال ملف مخيم الهول. وناقش الباحث الأردني، سعود الشرفات، ملف استراتيجيات مكافحة الإرهاب، مركزاً على الاستراتيجية الأردنية من منظور نقدي. واستشرف الباحث حسن أبو هنية مستقبل التنظيم والجهادية العالمية، وعباس محمد صالح مستقبل التنظيم في القارّة الأفريقية التي شهدت صعوداً وانتشاراً لافتاً له أخيراً.
لا يريد هذا المقال القصير الدخول في التفصيلات المهمة والإجابات أو النقاشات التي سادت في أوساط الحلقة البحثية (مسجّلة ومدونة في صفحات الكتاب)، لكن من الضروري الإشارة إلى أهمية مثل هذه الجهود الأكاديمية المعمّقة، بخاصة إذا كان الباحثون من أهل الاختصاص والبحث في الحقل نفسه، ويمكنهم بالفعل تبادل المعرفة والخبرات وإعادة النظر في المناهج ومراجعتها.
ثمّة مؤشرات مهمة وحججٌ رئيسية تعزّز القناعة بأنّ ما يمر به تنظيم داعش، أو ما وصلت إليه الجهادية العالمية اليوم، ما هو إلّا مرحلة هدوء أو كمون وتراجع سطحي، بما أنّ العوامل والشروط والبيئة الحاضنة لهذه الأفكار قوية، بل تزداد سوءاً بمرور الوقت. وربما كان أفضل من يلخص ذلك، أستاذ التاريخ في جامعة ماساتشوستس، براين ويليامز، الذي يقول في ورقته: "كلّ ما يتطلبه الأمر لإضرام النار في جمر الجهاد السنّي المشتعل، كما حدث بين 2012-2014، أن يقوم زرقاوي أو بغدادي جديد... ليعيد إطلاق شرارة داعش أو نسختها التالية"!