أسئلة التحوّل التركي في الملف السوري

14 اغسطس 2022
+ الخط -

ينطوي الموقف التركي الجديد في الملف السوري، وقد عبّر عنه وزير الخارجية جاووش أوغلو، على غموضٍ يصعب تفكيكُه أو فهم مضامينه، أيا تكن زاوية النظر إليه. ومقارنة بالسياق الذي تجري فيه الأحداث في سورية، يمكن وصف هذا النوع من التصريحات بالفانتازيا، وخصوصاً حديثه عن مصالحة بين المعارضة والنظام، في وقتٍ بات معلوماً استحالة قبول النظام أيا من أشكال التسويات التوفيقية والحلول الوسط، إلى درجة باتت هذه بديهية سياسية يعرفها أي مبتدئ في ممارسة السياسة الشرق أوسطية.

السؤال البديهي، ومن دون الدخول في تقييم ما إذا كانت هذه المصالحة منطقيةً مع النظام، عدا عن كونه المتسبّب الأساسي بالكوارث التي حلت بالبلد، وعدا عن أنه لا يملك من أمر قراره السياسي شيئاً، هو كيف ستتم المصالحة وما أساساتها، وما آليات وضمانات التزام الأطراف بها، وما شكل المشهد السياسي السوري بعد ذلك، وشكل النظام السوري، هل اتفقت تركيا وروسيا على جميع الترتيبات؟

وفي الإطار نفسه؛ كيف يمكن تحويل الترتيبات إلى إجراءاتٍ عملية، بمعنى كيف سيتم تفكيك الوجود التركي في سورية المنتشر على مساحةٍ تبلغ حوالي عشرة آلاف كيلومتر مربع وعبر عشرات القواعد العسكرية، فضلاً عن مئات المؤسّسات والإدارات الخدمية والمدنية، وما هو الوقت لإنجاز هذه الإجراءات، ناهيك عن كيفية تفكيك الهياكل العسكرية المدعومة من تركيا؛ والهياكل الأخرى التي لا تتبع لتركيا بشكل مباشر، مثل هيئة تحرير الشام وحراس الدين وسواهما من التنظيمات المتطرّفة؟

هل استشعرت تركيا وجود خطر داهم يتمثل بدعم واشنطن والغرب إنشاء كيان كردي مستقل في الأيام المقبلة؟

يحيلنا ذلك إلى السؤال عمّا إذا كانت اللعبة الجيوسياسية في سورية قد وصلت إلى خواتيمها، فمن دون تركيا لا تعود لعبة، وتصبح مجرّد تنسيق احتلالات بين روسيا وإيران، وما هي نقطة التحوّل التي كسرت هذه اللعبة، وجعلت أحد أطرافها يخرج منها بدون سبب واضح؟

لا يكفي القول إن مخاوف تركيا من المشروع الكردي في سورية هي نقطة التحوّل. ولكن إن كان كذلك، ما الجديد طالما كانت تركيا قادرة على التعامل مع مخاطر هذا المشروع، من خلال وكلائها في سورية، بل استفادت تركيا من تحويل الساحة السورية إلى مكان تستنزف فيه حزب العمال الكردستاني، وأتيحت لها فرصة اصطياد كثيرين من قادته في مناطق سهلية مكشوفة، ومخترقة أمنياً، على عكس قتال الحزب في جبال قنديل! فهل استشعرت تركيا وجود خطر داهم يتمثل بدعم واشنطن والغرب إنشاء كيان كردي مستقل في الأيام المقبلة، وهو ما عبر عنه جاووش أوغلو في اعتباره أن المصالحة ستمنع تقسيم سورية؟

ثمّة أسئلةُ عن شكل علاقات تركيا المستقبلية مع حلفائها الغربيين، وعن دورها في حلف الناتو

إن لم يكن هذا هو السبب، فهل يتعلق الأمر بحساباتٍ تركية مختلفة، من نوع: وقف الاستنزاف التركي من دون فائدة، ما دامت تركيا تستطيع التعايش مع وجود بشّار الأسد، وما دام الطموح التركي بوصول جماعات الإخوان المسلمين إلى السلطة قد تبخّر، لماذا لا تترك تركيا مهمة القضاء على الجيب الانفصالي الكردي للنظام السوري وروسيا وتريح رأسها؟

وسؤال السياسة في هذا السياق: ماذا سيخسر أردوغان من التفاهم مع روسيا في سورية؟ لمعرفة الجواب، يمكن السؤال: ماذا يربح من استمرار الصراع؟ ماذا لو حصل على امتيازات في النفط والغاز من روسيا ألا يكون قد باع الورقة السورية بثمن رابح؟ ثم ما أولويات أردوغان في هذه المرحلة؟ هل سورية أهم من الاقتصاد والانتخابات الرئاسية؟ ويحيلنا ذلك إلى السؤال الأبعد، ماذا قدّمت روسيا وإيران لتركيا من مغريات حتى تجعلها تقبل بتغيير المعادلات التي قاتلت من أجل إبقائها سنواتٍ طويلة؟

بيد أن ثمّة سؤال آخر يدخل في معمعة الأسئلة التي يطرحها الموقف التركي؛ ألم تكن تركيا تحصل على مصالحها من روسيا وإيران نتيجة حاجة هذين اللاعبين لها في ظل العقوبات المفروضة عليهما من الغرب؟ إذن، ما الحاجة إلى تقديم تنازلاتٍ جيوسياسيةٍ من شأنها التأثير في توازنات القوى، ليس في سورية وحدها، بل في وسط آسيا والقوقاز، وهي المناطق التي تتنافس فيها تركيا مع روسيا وإيران؟

لا يكفي القول إن مخاوف تركيا من المشروع الكردي في سورية هي نقطة التحوّل

وفي الأطر الجيوسياسية والاستراتيجية، ثمّة أسئلةُ عن شكل علاقات تركيا المستقبلية مع حلفائها الغربيين، وعن دورها في حلف الناتو. ألا يعني توافقها مع الرؤية الروسية للحل في سورية خروجاً عن قرارات الأمم المتحدة التي يؤيدها الغرب؟ هل الموقف التركي مبني على أساس أن القضية السورية خرجت نهائياً من دوائر اهتمام الغرب، المنخرط كلياً بالهم الأوكراني ومفرزاته السيئة على الاقتصاد الغربي، والمخاوف من هيمنة الصين على تايوان والانعكاسات الرهيبة على الاقتصاد العالمي، نتيجة سيطرة الصين على الجزيرة التي تنتج 65% من أشباه الموصلات على مستوى العالم؟

هل يعني ذلك أن تركيا تحاول بيع الورقة السورية لآخر المشترين، قبل أن تتحوّل إلى ورقة محروقة نتيجة انتهاء الاهتمام الدولي بها؟ أم هي محاولة استباقية للحصول على حصةٍ في كعكة الإعمار السورية، خصوصاً أن جاووش أوغلو تطرّق في حديثه للإعمار، بقوله إنه ما لم يكن هناك استقرار سياسي لن تُقدم الدول على المساعدة في الإعمار؟ هل للأمر علاقة بزيارة بعثة الاتحاد الأوروبي سورية؟

بالمناسبة، جاء تصريح جاووش أوغلو في سياق سلسلة تصريحات له، بعد قمتي طهران وسوتشي، فهل أسّستا لتحولات مفصلية في الملف السوري؟

5E9985E5-435D-4BA4-BDDE-77DB47580149
غازي دحمان

مواليد 1965 درعا. كتب في عدة صحف عربية. نشر دراسات في مجلة شؤون عربية، وله كتابان: القدس في القرارات الدولية، و"العلاقات العربية – الإفريقية".